كتب الأستاذ الآكاديمي محسن المحمدي مقالا مهماً عقب فيه على كتاب “الصداقة قيمة أخلاقية مركزية ” نشره في مجلة عالم المعرفة الكويتية..مقال عند قراءتك له تشعربحسٍ جمالي ، ومتعة نفسية متناهية ،مفاهيمه واضحة معززا بالأمثلة والمتشابهات.لاشك انه استاذ متمرس مارس المهنة بنجاح عالٍ مكنته من ايصال المعلومة للقارىء بطريقة سهلة ، وصيغ لغوية متعددة ورفيعة ومختلفة .مقال بحاجة لكل صديق ان يقرأه ليقف على مفاهيم وقيم الصداقة بين الناس عبر الزمن.
الكتاب يحتوي على مفاهيم الصداقة..لكن الذي يعنيه المعقب هو أستغرابه وتعجبة ،كيف ان هذا المفهوم حضر عند الفلاسفة اليونان منذ العصر الهليني والهلينستي معاً (322 ق.م)،وكيف غاب هذا المفهوم عندهم منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتى عصرنا هذا. بمعنى ان هذا المفهوم لازال غائباً عندنا الى اليوم في القيمة المركزية للتصور الاخلاقي للصداقة،وهذه بنظره منقصة ما كان يجب ان تحدث في مجتمع عالمي اخذ يتطور بسرعة في عالم التكنولوجيا والعلوم النظرية والتطبيقية.
فهل كان هذا الغياب الذي يطرحه الكاتب قصورا أنسانياً لنموذج من نماذج الحياة الصالحة؟ أم ان هذا الطرح الذي غاب حديثا كان نظرية قديمة عرفتها الانسانية ، ولكن بفعل فاعل تخلت عنها اليوم ؟ اذن لابد من اسباب جوهرية دعت الى ذلك ؟.فهل نظريات التطور وتعقد الحياة الاجتماعية لعبت دورا في هذا التوقف.قضية علمية وسايكولوجية بحاجة الى دراسة وتدقيق..من يريد ان يجيب عنها فالخيار له مفتوح .
يُنسب الكاتب هذا التوقف الى عيوب مركزية لازمت المؤسسات الدينية والسياسية والعلمية عبر هذا الزمن الطويل،لذا فهو يدعو الى دراسة المنعطفات التي حلت بالأمم حين تحول فيها نموذج التفكير والرؤية للعالم الى درجة نسيان العامل الاخلاقي في التعامل بين الامم والشعوب ،لا بل حتى بين الافراد أيضاً. بينما أنا شخصيا أنسبها لعامل الزمن المتغير ولا غير.
ففي المحطة الهلينية الاولى (323-523 ق.م) ،كان الانسان منظما يتعامل وفق نظرية (الكوسموس) التنظيم المبدع الملتزم،فالتنظيم ليس عفويا بل جاء وفق غاية زمنية محكمة،عبر
2
عنها الفيلسوف افلاطون بالغاية من اجل تحقيق هدف النفس الانسانية الأسمى هما التعاون والسلام ،كان العيش فيها يسوده السلام دون حروب.،بأعتبار ان جوهر الكائن الانساني هو(العقل، والنفس والوعي الذاتي ) لأن الأنسان هو الاساس فيما يسمى عندهم بالدولة أو المدينة التي رسمت لهم معالم علاقاتهم الحياتيه المدنية،حين توفرت لهم عناصرها التي هيأت لهم ما أرادوا.
وحين ننتقل بالكاتب الى المحطة الهيلنستية مباشرة( هي أستمرارا للمحطة الأولى)،التي بدأت بظهور الاسكندر المقدوني (ت322 ق.م) وفتوحاته التي ضمت معها جمهرة العلماء والخبراء والمهندسين،الذين اعتبرهم التاريخ سفراء ثقافة وأعمار الى الناس،مما خلق نظرية التزاوج الفكري بين اليونان والشرق العربي والعالمي. فخلق مجتمعا مغايراً حتى لمجتمع اليونانيين القدماء انفسهم ، وكأننا أصبحنا نتجه الى ظهور الدولة العالمية (كومبولس) بدلا من دولة المدينة المحدودة بشعبها الأصلي.
ونتيجة هذا التوسع ضاعت المُثل القيمية المفتوحة عند اليونانيين ، فتحولوا الى الانفرادية ،لكنها بنفس الوقت نقلت هذه الحركة التوسعية العالم الى فلسفة جديدة تلقائيا ، لم يعد لعادات وتقاليد دولة المدينة اليونانية القديمة لها من تأثير.
هذا التوجه الفلسفي الجديد عندهم ولد المدرسة الابيقورية (341-270 ق.م) التي دعت الى فلسفة اخلاقية جديدة اعتمدت الصداقة الحقة عنصرا جوهريا في النظرية الأخلاقية فيها ،كي لا تفقد الفلسفةاليونانية قيمها القديمة ،حتى قال (ديموقريطس 460-370 ق.م) صاحب هذه المدرسة الجديدة: ” ان حياة الفرد ليست جديرة بأن تعاش من دون صديق واحد مخلص على الأقل “.نظرية ظلت متداولة عندهم لفترة طويلة ولربما الى اليوم عند اليونانيين”.
كما قال عنها شيشرون (106-43 ق.م) ان الصداقة الحقة مفضلة على كل ما يمتلكه البشر،اذ لا يوجد شيء أكثر تناسباً لطبيعتنا البشرية وأكثر ملائمة من ايام الضيق والازدهار،لكنها هي الأفضل ” ويقصد الصداقة ..ويتعجب شيشرون كيف تُخان الصداقة بين الاصدقاء،وهي من وجهة نظره ركن من أركان الفضيلة بين الناس،لأنها مبنية على الخير والفضيلة ولا غير..فلا يخونها الا من كان من معدن رديء.
هذه المفاهيم القديمة لصداقة الوفاء خالية منها مناهجنا التعليمية اليوم بعد ان استبدلت بمفاهيم دينية عائمة وغامضة ملفوفة بفلسفة سفسطائية دينية مفروضة علينا …لا معنى لها.
3
ان غياب التنظير لمفهوم الصداقة عندنا اليوم يكمن في التحولات الثقافية والسياسية التي ولدت نظرية المصلحة الشخصية بدلا من المصلحة العامة..لذا نرى ان السياسي يغدر بصديقه الاخر من اجل مصلحته الشخصية – الأنقلابات السياسية والعسكرية في الوطن العربي مثالاً- دون النظر لفلسفة الصداقة الحقة وفق نظرية المصلحة العامة. بعد ان ساد الأعتقاد عند البعض منهم..ان السعادة يمكن ان تتم دون صديق.
يقول صديقي العزيز الفيلسوف جعفر آل ياسين (ت 2010 م) : ” ان الصداقة هي دليل رشد لصاحبها ترشده الى طريق الحق والصواب،بها يكون الصديق المخلص أقدر على الوفاء من غيره حتى في الشدائد والمحن،فالصديق المخلص يركن اليه عند الشدة”، ونقول : لا تتحقق الصداقة الا اذا اصبحت سلطة العقل مرجعية وحيدة له..وهذه اجواء يصعب فيها تطوير علاقات صداقة لفقدان مرجعية العقل في غالب الأحيان .
لقد حاول الأسكندر المقدوني (354-322 ق.م) ان يحقق الطموح الخلاق العالمي للبشرية ،مقابل الطاعة القائمة على الرضى وفق منظور الصداقة ،ليركز بعد ذلك على نظرية صداقة الشعوب ككل،لكنه لم ينجح ،لكون ان توسعه في العالم لم يكن على اساس توحيد الأمم وفق المنظور الأنساني، بل كان على اساس توسع البيت الحاكم ، فكل فتوحاته اعتبرها من أملاكه..من هنا ظهرت نظرية الأستيلاء التي نسميها اليوم (بنظرية الأستعمار) وقد جرَ هذا التوجه الى الخسران والفشل وموت الأسكندر( في 13 حزيران عام 322 قبل الميلاد في قصر نبوخذ نصر في مدينة بابل العراقية وعمره 32 سنة) حال دون تحقيق الأمل.
نعم ان فلاسفة اليونان يستحقون الأفضلية في ابتكار علم فلسفة الحياة … وهم اصحاب نظرية الحركة ،أي ان الزمان والمكان ، في تغير وتحول دائمين..وسبب هذه الحركة هو الصراع –أي جدلية الكون- او ما تسمى بالصيرورة الزمنية .. وهم أول من أبتكر النظرية الجدلية التي هي اليوم ام القوانين ..؟
فالصداقة والخيانة جدلية …الموت والحياة جدلية ،(القرآن سورة المُلك)..الخير والشر جدلية…الطموح والفشل جدلية… قوانين الكون والفساد جدلية …
فأين لنا اليوم من أحياء هذا العلم اليوناني القديم .. ليتعلم منه من خانوا الوطن والشعب وهم اصدقاؤهم..؟