14 نوفمبر، 2024 9:07 م
Search
Close this search box.

الصخب السري

1 – قبلَ اليقظة                                                                                             
نسهرُ من يقظة الأزل حتى صياح الديك. نبللُ سراويلنا بالنواح المكتوم، ونمضي بلا جلبة الى اليباب المُدنّس بالوهم الطارف. لي صديقاتٌ يتسربلن َ بقشّ ِ الغشّ. ويولجنَ ليلهن في حقول ما مضى من بؤر الفرح المنسيّة. أنا في ضاحية المُخيلة أتناولُ حبة الموز. وكان الى جواري يتأملني. سألتُه أين بيتُكم؟ ففوجيء ، أشار بيده الى مكان ما. قلتُ سأودعُ هذه الوسادة عندك، ويجيءُ أخي مساءً ليأخذها. هزّ رأسه موافقاً، لملم عياله ومضى، ومضيتُ وراءه. أمام الباب توقّفَ ،تناول مني الوسادة. من أين لك بها؟ لا أدري. ثمّ توارى. فنسيتُه ونسيني. ولا أظن أنّ اخي استعادها منه. ازدحم روعي بعلامات الاستفهام. قبلاً، قبلَ أن يعود الى بيته، أنبأني أنّنا في تايلند، لكنْ من جاء بشارع الرشيد ومنطقة المربعة الى هذا الصقع البعيد. قلتُ هازئاً: أنّه يمزحُ ويستهزيءُ بي. ذا أنا الجُ المقهى، ويضعُ النادلُ المصري قدح الشاي فوق الطاولة. لم أجرؤ أنْ أقولَ له: انّي أكره شربه في قدح. وشاي الاستكانة له نكهة ٌ خاصة. قال ونظراتُه النارية تُصليني / تلك عادة قديمة، الشاي في كل بلدان العالم يُقدّم في أكواب أو أقداح / هززتُ له رأسي… حينَ أنتهي من شربه سأعود الى صديقي اليهودي، أجلس الى جواره ،جوار الجدار العالي / لقد مضى الى بيته ولن يعود ثانية / كان صوتَ أخي يُخاطبني من مكمن ما. وغصتُ في عمق الرشيد تجاوزتُ حافظ القاضي والمكنزي والشورجة. وقفتُ قبالة جامع المرجان أرى الى خطوطه وزخارفه الباذخة وأمضي تُجاه شارع المتنبي. لكنّ مرأى الرصافي أدمى آدميتي ، بل أبكاني ، كان محشوراً بين أكداس القمامة وعلب الكارتون الفارغة ، تغشاه طبقاتُ الأغبرة. شارعُ المتنبي أعاد اليّ بعض الطمأنينة. ما زال يتكدّسُ بأعداد من البشر جاءوا من أطراف بغدادهم ليجولوا بين الكتب المفروشة على جانبيه. لم أشتر كتاباً ُ فمن أين للحالم أن يشتري شيئاً. فأنا محضُ راء ٍ يمشى في رواق حلمه. قلتُ مع نفسي: هي فرصةٌ لألتقي زميلاً لي كان في البصرة، وغادرها الى غير رجعة. لكني أخشى أنه ذهب ضحية انفجار سابق ضرب أحشاء هذا الشارع ودمّر معظم ملامحه التأريخية .  مضيتُ ليبتلعني سوق السراي ثمّ سوق الأقمشة فشارع النهر الذي رماني الى منطقة المربعة، ثمّ الى نهاية الرشيد. ببطءٍ وصلتُ الى الكورنيش، تهالكتُ قبالة دجلة فوق مقعد طويل واستغرقني النومُ الذي رماني الى اليقظة فوق سريري الذي بدأ يتنفّس ضوعَ الصبح. 
2 – جاء رَجاءٌ                                                                                              
ثمة َزلزالٌ هزّ أرجاء ذا المكان، عطّلَ القطار، بعثرَ عرباته، قلعَ قضبان الحديد. بلْ أغرقَ الركاب في دُوامة الهلع؟ كنتُ راكباً، لي مقعدٌ في العربة الأخيرة. انقلبت ستُ عربات سوى عربتنا التي اكتفت بالخروج عن خطيْ السكّتين. نزلتُ مع مَنْ غشيهم الهلعُ، ومشيتُ تُجاه الماكنة الأشبه بعنكبوت عملآق وقد انزلقت في هوة غير عميقة بعد خروجها من خط سيرها. الفزعُ ما زال يغشى الوجوه التي غادرت أماكنها. وثمة َآخرُون ما زالوا داخل العربات الخارجة عن سكتي الحديد. احسستُ بحزن يعروني وبفرح مثله، لم يُصبْ أحدٌ بمكروه سوى الفزع. فجأةً رأيته، كان يحمل بيده قبعة بلون الرصاص. تُرى كيف يعود من مات من عشر سنين مضين الى الحياة؟ التفتَ تُجاهي ولمحني. توقف، وضع يده على كتفي وناولني بيده الأخرى القبعة: خذها ، ستحمي رأسك من سياط الحرّ. أدخلتُ يافوخي فيها ومضينا. لكنْ، الى أين؟ الى الجهة المعاكسة لسير القطار. تجاوزنا العربة الأخيرة، وتوقفَ: أترى تلك السلسة الجبلية؟ هززتُ له رأسي، فبدأ يتحدّث عن تفصيلات الأمكنة وينابيع المياه الصافية والمعدنية ذات المذاق الحامضي. استغربتُ أن يتحدّث نيابة عنّي وعن مرئيات أنا رأيتُها وتوقفتُ عندها مراراً. كيف يعبّرُ رجاءُ عمّا أخبئُه أنا في نفسي. وساق الى رُوعي كلّ ما أعرفه ورأيته خللَ الجبال البعيدة، مازال مُمسكاً بيدي يروم ولوج المدينة الصغيرة التي غشينا حواشيها. وتبيّنا أوائل أزقتها وأسواقها. توقف أمام المخبز وتناول رغيفين ساخنين من دون أن يدفع ثمنهما. وكي يبدّد هاجس تساؤلي همس: هنا يأخذُ كلّ أحدٍ حاجته مجاناً. فجأةً توقفنا أمام باب، دفعه بيده وعلا صريره.  ذا بيتنا: تمتم بهدوء فولج الى الداخل وتبعته. في رقعة الظل جلس فوق القنفة وأشار اليّ أن أجلس الى جواره.  سألني: لم يطاردُك أستاذ ُالجامعة؟ لا أدري، ربّما من منطلق الحسد، فأنا استاذ ايضاً، وقد هيأتُ له مكاناً للنوم في احدى غرف الأساتذة، لكنّه شهر في وجهي مسدسه، بل طاردني من زقاق لزقاق وأطلق عليّ وسط الشارع العريض بضع رصاصات لم تُصبني. وسمعتُه يصرخ: سأقتلك عاجلاً أم آجلاً / ردّ رجاء: سيموتُ قبل أن يهتدي الى قتلك. انه مُصاب بمرض خطير / لا أتمنى ذلك، فهو علمٌ ثقافي نحتاجُ اليه / . عندئذ أغلق الحلمُ بابه ووجدتُني أتمططُ على فراشي، وقد توغل الصبح في غرفة نومنا ..

أحدث المقالات