22 ديسمبر، 2024 9:02 م

الصحيفة السجادية.. سلاح توعية ومقاومة وردع للطغاة

الصحيفة السجادية.. سلاح توعية ومقاومة وردع للطغاة

الدعاء ركن ركين، وكهف حصين، وواحة أمان وطمأنينة، وعماد دين الانسان المؤمن بالواحد الأحد، تم التأكيد عليه في جميع الأديان والشرائع السماوية خاصة في ديننا الاسلامي الحنيف، هو سلاح توعية ومقاوم وردع للانسان المؤمن بالله سبحانه وتعالى وتعاليمه الحقة في مواجهة الخطوب والعلل التي تنتابه، وردع طغيان وجبروت حكام الظلم والشر والفرعنة وكذا حين تتلبّد أمامه الأجواء فيحسّ بالاختناق في كل لحظة، ويفتش عن المتنفس، ويبحث عن الإنعاش، وقد أشار القرآن الكريم الى هذا المعنى حيث قال:”وَإِذا مَسَّ الإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً..” سورة يونس: آية 12.

الاحاديث النبوية الشريفة، أكدت كثيراً أن للدين مظهر وجوهر.. مظهر الدين هو الصلاة والصيام، والحج.. الى آخر العبادات.. فيما جوهر الدين وعماده هو الدعاء، حيث جوهر الدين هو اتصال الإنسان بالله جل وعلا، وعماد الدين وهو عروج الانسان الى خالقه المتعال.. إن الله سبحانه وتعالى تحدث الى الإنسان عبر القرآن الكريم، ولكن كيف يتحدث الإنسان مع رب العالمين؟ إن مناجاة الإنسان مع ربّه هو الدعاء.. ومن هذا المنطلق أقدم الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام، على صياغة أدعية عالية المضامين بوحي من القرآن الحكيم تعتبر بحق دائرة معارف عليا لجميع المعارف الإلهية، ابتداءً من معرفة الله سبحانه وتعالى ومعرفة أسمائه الحسنى، وطرق التوسل إليه، واستمراراً مع صفات الرسل وانتهاءً بتكريس الصفات الرسالية عند الانسان المسلم الى جانب تثقيفه بثقافة عاشوراء “هيهات منا الذلة” في التصدي لكل طاغٍ ومنحرف ومنافق، كما وردت في الصحيفة السجادية أو ما تسمى صحيفة أهل بيت العصمة والطهارة.

الأحاديث النبوية الشريفة التي هي تعبير عن روح القرآن الكريم، هي الاخرى أكدت مراراً على أن للدعاء أهدافاً وحكماً كثيرة لو عرفها الانسان لاكتشف كنزاً عظيماً.. اكتشف علاجاً لمشاكل عويصة يعيشها في حياته.. وحلاًّ للمصاعب التي تعترضه.. واكتشف بالتالي شفاءً لما في صدره من الآلام والأدران؛ خاصة وإن الانسان المؤمن يواجه في حياته مخاطر كثيرة، وذلك بسبب ضعف نفسه، لأن الإنسان خلق من ضعف وركب في ضعف {وَخُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً}- سورة النساء:28، حياته محدودة، وعمره محدود، وعلمه محدود، وأخيراً تحركه في الدنيا محدود.. وفي مقدمة هذه الأحاديث ما روي الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه المنتجبين، حيث قال: “اَلدُّعَاءُ سِلاَحُ اَلْمُؤْمِنِ ؛ وَعِمَادُ اَلدِّينِ وَنُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَاَلْأَرْضِ”- نقله الألباني في الجامع الضعيف عن علي بن أبي طالب الصفحة أو الرقم: 179 و3001، وسنن الترمذي، في أبواب الدعوات، رقم الحديث 3526، وأصول الكافي 68:2، وجاء في مسند الشهاب: ۱ / ۱۱۶ ـ ۱۱۷، و…

اقتضت الحكمة الالهية بقاء الامام علي بن الحسين زين العابدين حياً بعد نهضة عاشوراء التي أقترفها بنو أمية الطلقاء على يد الحاكم الفاسق الفاجر شارب الخمر ومداعبة القردة وقاتل النفسية الزكية يزيد بن معاوية بن هند آكلة الأكباد؛ فكان الشاب الوحيد الذي نجا من تلك المجزرة الرهيبة والفاجعة الدموية الوحشية التي حلَّت بأهل بيت الوحي التنزيل والنبوة كي يتمكن من نقل صورة حقيقية وواضحة وشفافة عن الحوادث والوقائع والمصائب وانتهاك الحرمات المقدسة التي جرت في الطفوف بكربلاء مع والده الامام الحسين وأهل بيته وأصحابه الميامين حيث لم ينجو منهم حتى الطفل الرضيع ذو الأشهر الستة.

عاش الامام علي بن الحسين السجاد أقسى فترة من الفترات التي مرَّت على أئمة أهل البيت وأنصارهم ومحبيهم، وعانى ما عانى وتحمل ما تحمل حيث عاصر بداية قمة الإنحراف الأموي بشكله الفظيع على كل المستويات خاصة الدينية منها، بأمّ عينه المِحن والبلايا والرزايا التي حلَّت بالاسلام وأهله وأسلافه الغيارى، وكيف كانت جيوش بني أمية تدخل مسجد رسول الله صلوات الله وسلامه وعليه وآله في المدينة المنورة وتربط خيلها في المسجد الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها.. لكنه تمكن ورغم كل تلك الظروف البالغة القسوة والحساسية والخطيرة من العمل على قيادة الحركة الاصلاحية للأمة الاسلامية تلك التي بدأها والده الامام الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وضحى بنفسه وأهله وأصحابه الميامين من أجلها وذلك وفقاً لمقتضيات المصلحة الإسلامية منذ اللحظة الأولى لوصول السبايا الى الكوفة ومن ثم الى الشام عند الدعي أبن الدعي يزيد.

عمل الامام زين العابدين عبرأساليبه وتعاليمه وأقواله وأدعيته على فضح بني أمية وإسقاط كل الأقنعة التي كانوا يغطون وجوه سياستهم الحاقدة والدموية خلفها وهذا ما يبدو لنا واضحاً وجلياً من خلال خطب عليه السلام في مسيرة سبايا آل بيت الرسول الأكرم من كربلاء الى الكوفة والشام والمدينة؛ حيث المتتبّع للأحداث يلاحظ الاختلاف في خطاب الامام علي بن الحسين بين الكوفة والشام، ففي الكوفة إنصبَّت كلماته على مخاطبة ضمائر الناس وذلك لأن أهل العراق يعرفونه ويعرفون أباه الامام الحسين وجده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولكنهم لضعف نفوسهم وتحت تأثير الخوف والطمع تخاذلوا عن نصرة أبيه الحسين بن علي في ثورة عاشوراء لذا نرى أن بني أمية لم يقولوا بـ”خارجية” الحسين وأصحابه في العراق لعلمهم أن هذا اللون من الدعاية لا يأخذ نصيباً من النجاح في بلدٍ يعرف الامام الحسين.

أما في الشام وأمام الطاغية الأموي يزيد بن معاوية الفاسق الفاجر فقد كانت كلمات الامام زين العابدين عليه السلام منصبَّة على التعريف بالسبايا وأنهم آل خاتم المرسلين المصطفى الأمين محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته وأصحابه الأخيار الى جانب فضح الحكم الأموي الفعوني الدموي الإجرامي، وتعريته أمام أهل الشام وقد جرت نقاشات متعدّدة بين الامام السجاد (ع) وبعض الناس في الشام ما يكشف لنا بوضوح جهل الناس هناك وعدم معرفتهم بالامام والسبايا.. ثم أنطلق الامام السجاد الى استعمال الدعاء لنشر أهداف الثورة الحسينية الوهاجة واستغلاله لتربية الأمة الاسلامية ودفعها نحو مقارعة الكفر والانحراف والأعوجاج والظلم والطغيان الذي حل بالأمة بعد رحيل الرسول الأعظم وعانى منه والده وعمه وجده الامام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام أجمعين.

كان واضحاً في عصر الامام علي بن الحسين مدى الخطورة والانهيار الذي بدأ يدبّ في أوصال الأمة المسلمة في كيانها ووجودها الاجتماعي، وذلك إثر الهجوم الواسع النطاق الذي أخذ المفسدون والطواغيت ووعاظ السلاطين المنحرفين على عاتقهم القيام به. فقد بدأ هؤلاء يشيعون ويروجون الأفكار الهدامة، ويشجعون ألوان المجون والتحلل الأخلاقي، ويخترعون كلّ وسيلة لتدمير وتفكيك البنى الاجتماعية والأسريّة لدى الأمة وهو ما نعيشه في غالبية بلداننا الاسلامية اليوم بفضل حكام من أبناء وأصحاب الطلقاء.. يدلنا على ذلك، ويشهد عليه ما نقله أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني (ج7،ص6)، وما أورده المسعودي في مروج الذهب (ج3، ص214)، وكذلك العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي).. حيث كانت عمليات (الإفساد الرسمي) والحفلات الماجنة، وانتهاك الحرمات نهاراً جهاراً، ممّا ينبئ بعملية (إفساد منظّم) تقف وراءها مؤسسات الدولة الأموية وإن من يطّلع على مثل تلك الصور والأرقام يدرك ما كان يجري من (فسادٍ وإفساد) وعلى مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية (العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب) والفكرية والأخلاقية.

رسم الامام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام الذي نعيش هذه الايام ذكرى استشهاده المؤلم على يد الطاغية الأموي الجبار العنيد الظلوم الغشوم الوليد بن عبد الملك (المسعودي في مروج الذهب: ٣ / ٩٦)، القائل: “لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا” (رواه الزهري في كتاب حياة الامام زين العابدين: ٦٧٨)؛ معالم مدرسته الاسلامية ونهجه المقاوم للطغاة وفضح الظلم ونبذه والتصدي اليه على ضوء ما قاله والده الامام الحسين في يوم عاشوراء “هيهات منا الذلة” ولكن بأدعية يحافظ من خلالها على أصالة الفكر الإسلامي ونقائه ثم إيصاله إلى الأجيال اللاحقة سليماً معافىً من التشويش والتحريف وبعيداً عن أباطيل الخصوم وتشويهاتهم، سواء منهم من كان يكيد للإسلام كالمنافقين، أم من كان يتربص الدوائر للانقضاض عليه.

الرجوع الى الصحيفة السجادية يعدّ رجوعاً الى الينابيع الاسلامية الأصيلة والنقية، والبحث في مضامينها الراقية سواء في المجال الفكري والسياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي، ومحاولة استكشاف المفاهيم.. وما أجمل أن نختم الحديث عن أدعية الامام السجاد (ع) بمقطوعة رائعة من أدعيته التي تعلّم المؤمنين ـ كيف ينبغي الانقطاع إلى الله والاستغناء عن الخلق والتذلل لهم!: “اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره ومن حق ذي حق لزمني لمؤمن فلم أوفره ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره” الصحيفة السجادية: 147.

[email protected]