23 ديسمبر، 2024 11:12 ص

الصحافة في بلدان الفوضى الخلاقة

الصحافة في بلدان الفوضى الخلاقة

بعضنا يولد ولديه موهبة الكتابة، والبعض الآخر يحتاج إلى وقت أكبر من المران والدربة حتى يمتلك أدوات هذه “الصنعة”. منا من يولد جسورا فلا يهاب الحديث في كل موضوع، مهما بدا غريبا عليه، فتتساوى لديه الثرثرة مع التحليل. ومنا من يفتك به التسويف، وتعيقه مهابة الجمهور، فتضيع مهاراته بالتردد وانتظار لحظة الاكتمال التي لن تأتي. وبين الفريقين فئة ثالثة تولد الكلمة لديهم من رحم التأمل والتفكير العميق والوعي بحجم المسؤولية. ثلاث فئات تجمعهم إشكالية واحدة، هي: إشكالية الكتابة. هذا في التشقيق النظري. أما في الواقع، الواقع الصحفي تحديدا، فإن الهيمنة تكاد تكون للفئة الأولى. فقر التأهيل بما يجب أن يكون عليه الكاتب، مهنيا ومعرفيا وأخلاقيا، يفضي إلى التسييب في معايير الكتابة.. “للجميع الحق في الكتابة في أي شيء”، ليس عليك أن تكون ملما بما تكتب.. المهم أن تكتب!.. وستحصل على عدد من القراء و”المعجبين”، حتى ولو جمعهم الفضول.
لمقاربة هذه الإشكالية، نترك جانبا أسئلة من قبيل:
– ما الصحافة؟
– ماذا يعني الخبر الصحفي؟
– ما تعريف المؤسسة الصحفية؟
– ما “تقنيات” كتابة الخبر الصحفي؟
– ما أدوات ومتطلبات فن التحليل السياسي؟
فهذا مادة مدرسية يفترض أن يتلقاها، أو يحيط بها علما، من يمتهن هذا النمط من الكتابة. ما يستوقفنا أكثر شمولية، ويتجاوز التصنيفات التقليدية لأساليب الكتابة، هي المشكلة الآتية: مساحة الكتابة تتسع في بلدان لا عهد لها بتقاليد الحرية، لم تتح لأبنائها فرصة التأهيل العلمي، بل إن جلَّهم نشأ في ظل أنظمة قمعية تجهيلية تدجينية، أصابتهم ـ كما تؤكد ذلك أبحاث العديد من الباحثين النفسيين ـ في الصميم من سلامتهم النفسية. إذن! نحن حيال أزمة تطال أعماق النفس الإنسانية، وليس نتاجاتها فحسب. وحيث إن هذا المقال ليس دراسة نفسية في “عصاب” الكتابة العراقية المعاصرة، لذا من الأفضل لنا أن ننزع للتحديد أكثر، فنتساءل عن مظاهر تلك الأزمة في خصوص العمل الصحفي، وطبيعتها، وأسبابها؟
يبدو أن سؤالا بهذه السعة يمنع على الدارسين فرصة الإجابة المتسرعة، ويجعل حديثهم عن “معالجة” الأزمة، بمعزل عن تحسين القاعدة المادية لحياة الإنسان المقهور في تلك المجتمعات، حديثا مثاليا وعظيا. ومع هذا فإن الصعوبة لا تحول دون تقديمنا بعض الملاحظات التي نظنها مهمة في هذا الصدد.
وللذين يحاولون التخفيف من حدة وصف المشهد الصحفي بأنه “مأزوم”؛ مستفيدين من دعوى عراقة الصحافة العراقية وامتلاكها لبعض الأعلام البارزين، نقول: إن بعض محطات الازدهار في تاريخ هذه الصحافة لا تقلل من حقيقة ما تعانيه اليوم من واقع غير سار، بل ومحبط. هذا إن لم يكن في تلك “المحطات” (المحدودة بطبيعة الحال) ثقلها برفع معايير النجاح اليوم، في ظل واقع يتطور بنحو مستمر.
يمكننا أن نوجز أهم مظاهر الأزمة المشار إليها في نقاط ثلاث:
أولا: انخراط الصحفيين.. اشتباكهم.. مع طرف سياسي على حساب طرف سياسي آخر، حتى ليكاد أن يكون الصحفي ناطقا رسميا باسم هذه الجهة السياسية أو تلك، متماهيا معها. يفتقد الصحفي حريته لصالح المؤسسة التي يعمل فيها، فيغيب صوته، وبغيابه نفقد مساحة من الوعي بالحقيقة.
ثانيا: يكتفي بعضهم بملاحقة تصريحات السياسيين (ممن في الحكومة أو خارجها)، فيسخر منها، يعترض غاضبا عليها، يسوقها بالاتجاه الذي يهواه، لكنه يحجم عن تفكيكها: أي عقل وتفكير أفرزها؟ أي محور تمثل؟ مع مَن من السياسيات الإقليمية والدولية تصطف؟ أي القضايا تُغذي وتُنتج؟ في أي نقطة تحديدا تتناقض مع المصلحة الوطنية؟ ما مدى انسجمها مع العقلانية السياسية؟ يهمل الصحفي هذه الأسئلة وغيرها، فلا يتجاوز موقفه مجرد الرفض. لا يطور عمله ليجعل منه تحليلا. تتشابه أعماله كلها فيبدو فقيرا في مهنته، بعيدا عن استحقاق لقبها.
ثالثا: من النادر أن نعثر في الكتابات الصحفية المنتشرة مؤشرات على وجود ثقافة سياسية ثرية ومتابعة. وأنا أعني هنا تحديدا رصد الحدث العراقي، السياسة العراقية، في عيون الصحافة ومراكز الأبحاث العربية والدولية، من جانب. كما أعني ـ من جانب آخر ـ قياس ما يجري في العراق ومقارنته، كشف أبعاده ودلالاته ومآلاته، بما جرى أو يجري في العالم، قديما وحديثا. لا حضور لما هو عالمي، حدثا وثقافة وقرارات وسياسات، في إضاءة ما هو داخلي. الأغلب غارقون في محلية تفضح هشاهة التكوين الثقافي وضيق أفق أصحابه.
هذا كله دون أن نتطرق عن الإسلوبية اللغوية الانفعالية التي تطفح بها كتابات بعضهم، وإمعان بعض آخر في التحليلات الاستفزازية التي تسفه الأبعاد الحقيقة للمشاكل التي تواجهنا، مع استخفاف واضح بعقل القارئ ووقته. فإذا ما أخذنا كل هذه الملاحظات بنظر الاعتبار، فإننا سنكون في مأزق أمام هذا السؤال المرعب: هل الصحافة العراقية كما نعرفها اليوم، وبعد عقد من سقوط الدكتاتورية، تليق بحجم الثمن الذي دفعه العراقيون، شعبا ودولة، للتمتع بمزايا الديمقراطية؟
لا أرغب في التمادي أكثر في نقد صحافتنا “السياسية” (وهي التي أركز عليها في هذه المقال)؛ لكي لا يستغل بعضهم ذلك فيؤوله بغير الاتجاه الذي أردته، لاسيَّما وأنا على دراية بالظروف التي تكبل الصحفي العراقي. أعرف أن ما من عمل مثالي في بلدنا، وأنه ليس من الإنصاف التقليل من جهد الآخرين حتى لو بدا غير مكتمل. أتفهم أن ما من صحفي في العالم مستقل تماما، وأن لكل صحفي الحق في أن ينحاز لما يجده صائبا وأخلاقيا ونافعا في نظره.
أعرف كل ذلك وأتفهمه، ولكن ليس لنا من خيار سوى رفع سقف التوقعات والتذكير بالتزامات المهنة وشروطها وانزلاقاتها الخطيرة.