حيث تتعاقب المآسي على إيقاع الحياة اليومية، ويمتزج الجد بالهزل في تفاصيل الشارع، وُلدت الصحافة الساخرة كأنها صرخة مدهونة بالابتسامة. منذ مطلع القرن العشرين، خرج نوري ثابت “حبزبوز“ ليؤسس تقليداً جعل من الضحكة أداة مقاومة، ومن الكلمة اللاذعة سهماً يصيب قلب الاستبداد. في مجلته التي حملت اسمه، تحولت النكتة والكاريكاتير إلى أسلوب حياة، يفضح تناقضات الواقع ويخفف وطأته في آن واحد، فغدت الضحكة العراقية مرآة تكشف عورات السياسة والمجتمع.
ثم جاء جيل آخر حمل الراية، فكان شوقي كريم حسن بكتاباته الشعبية التي تمزج الحكمة بالسخرية، يستلهم لغة الشارع ليعيد إنتاجها نصوصاً ساخرة. وجاء داود الفرحان الذي جعل من مقاله حكاية ممتعة تنبض بالدهشة والوجع، يتنقل بين العواصم العربية لكنه يظل مشدوداً إلى بغداد وملامحها الساخرة.
وإذا ما قارنا التجربة العراقية بالتجارب العربية الأخرى، نجد أن مصر مثلاً قدّمت أسماء لامعة مثل صلاح جاهين في الكاريكاتير، أحمد رجب في عموده الشهير “نص كلمة”، ومحمود السعدني الذي يعد من أبرز أعمدة الأدب الصحفي الساخر.
وفي عراق اليوم يبرز اسم كاظم المقدادي بوصفه الصوت الأوضح في الصحافة الساخرة المعاصرة. مقالاته ليست مجرد دعابة أو نكتة عابرة، بل نصوصٌ تُحاكي واقعاً مثقلاً بالفساد والخراب، وتعيد صياغته على هيئة ضحكة مريرة.
في كتاباته يتحول الألم إلى مادة للوعي، ويغدو الضحك شكلاً من أشكال المقاومة ضد الطائفية، وضد عجز المؤسسات، وضد واقع يصرّ على العبث بمصير الناس. المقدادي، في جوهر تجربته، يذكّرنا بأن السخرية موقف وجودي قبل أن تكون فناً، فهي نافذة يطل منها العراقي على الخراب فيضحك، لا ليغفل عنه، بل ليجرّده من سلطته المرعبة.
من “حبزبوز” إلى المقدادي، تبدو الصحافة الساخرة في العراق خيطاً من نار يمرّ عبر العقود، يحترق بمرارة لكنه يضيء طريق الوعي. إنها الضحكة التي تنبت وسط الركام، واللغة التي تقول الحقيقة بنبرة لا يستطيع الطغاة أن يحاكموها. هي خاتمة قصيدة طويلة لم تكتمل بعد، قصيدة يكتبها العراقيون بالمرارة نفسها التي يكتبون بها ضحكاتهم.
الصحافة الساخرة ليست ترفاً ولا لهواً، بل هي مدرسة وعي، تعلّمنا أن الحرية لا تُصان بالتصفيق، بل بالضحك الواعي الذي يعرّي الزيف ويعطي الناس القدرة على مساءلة السلطة. إنها باقة شوك مغطاة بورق السوليفان، وشراب حلو المذاق يخفي مرارته في الداخل، لكنها مرارة ضرورية كي نُشفى من أمراضنا العامة.