22 ديسمبر، 2024 8:20 م

الصابئة فِي مدينة واط خلالَ العصر العباسي

الصابئة فِي مدينة واط خلالَ العصر العباسي

للفترة 324ـ 656 هـ أو 953ـ 1258 م
لموقعِ مَدينة (واسِط) الجغرافي المتميز وَسط (العراق) ولخصوبة أراضيها الزراعية، ووفرة المياه فيها، أصبح لها شأن بارز ودور مُهم في تأريخ العراق منذ تأسيسها على يدِ (الحجاج بن يوسف الثقفي)عام (83هـ) واختيارها مركز للعراق خلال فترة العصر الأَموي.

وَرَدَ في كتاب (الدرهم الأَموي المُعرب) تأليف (ناصر محمود النقشبندي ومهاب درويش البكري) في صفحة (43) في تعريف واسط :(هي المدينة العربية الثالثة التي أسسها العرب في العراق، أما المدينتان فهما الكوفة والبصرة وقد أسس الحجاج بن يوسف الثقفي واسطاً لتوسطها بين الكوفة والبصرة والأهواز، وبقيت واسط طوال عهد الخلافة الأموية من اشهر مدن العراق. وقد وصلتنا مجموعة من الدراهم والفلوس ضربت في هذه المدينة الخالدة وأن الدارهم الأموية التي وصلت كاملة منذ تأسيس هذه المدينة حتى نهاية الدولة الأموية سنة 132هـ).

وتقول باحثة الآثار (جنان خضير منصور) في مقالتها الموسومة (تاريخ واسط) المنشورة في مجلة ميزوبوتاميا ( بلاد النهرين ) العدد (5 و6) والمنشورة على صفحات الانترنيت تقول:عن تاريخ بناء المدينة :
(أما عن تاريخ بناء المدينة فقد اختلفت المصادر في تحديده، إلا ان معظمها يجمع على إن عملية البناء تمت بين الأعوام (83هـ ــ 86هـ/ 702 ــ 705م) أي في أواخر حكم الخليفة عبد الملك بن مروان الذي استأذنه الحجاج في انشاء المدينة. وأنى أرجح بناء مدينة واسط سنة (83هـ/702م) معززين الرأي بما وصلنا من مسكوكات فضية (دراهم)، مضروبة بهذه المدينة حيث تعتبر المسكوكات وثائق أساسية ومهمة جداً يعتمد عليها في تتبع مسيرة التأريخ وفك الاشكالات والتداخلات التي يقع فيها كتابه. ويحتفظ المتحف العراقي بدرهم فضي مضروب بواسط سنة 83هـ، كما ويحتفظ بدرهم اخر من ضرب سنة 84هـ. وهذا يقدم لنا دليلا علي ان بناء المدينة كان قبيل عام 83هـ وأخذت تستكمل بعد ذلك مرافق المدينة حتى عام 86هـ. لقد وصفت واسط بناء وتخطيطاً بأنها كانت تقع علي الجانب الغربي لنهر دجلة يقابلها علي الجانب الشرقي مدينة قديمة تسمي كسكر. وقد ربط المدينتين جسر من السفن على كل جانب من جانبي النهر جامع، وكان يحيط بالمدينة سور وخندقان، إلا ان( بحشل)1 يذكر انه كان للمدينة سوران وخندق ).

وبعد سقوط الحكم الأموي وانتقال الخلافة للعباسيين وبناء بغداد على يد (أبو جعفر المنصور)عام 145هـ ، واختيارها عاصمة للدولة العباسية، بقيت واسط من الأقاليم المهمة في العراق، وخلال القرن الرابع الهجري حدثت تقسيمات إدارية مهمة في العراق أصبحت واسط، إحدى الولايات المهمة والمرموقة حيث ضمت مدنا ًعديدة وقرى وقصبات كثيرة.

ويشير الأستاذ عبد القادر سلمان المعاضيدي في كتابه الموسوم (واسط في العصر العباسي)2 وكان يسكنها خليط من العرب والفرس والأتراك والديلم والنبط * والزط **، وقد تعايشت فيها طوائف دينية إلى جانب المسلمين، إذ كان هناك نصارى ويهود وصابئة مندائيون .

ويوضح الأستاذ المعاضيدي : لقد كانت مناطق وجودهم ( الصابئة المندائيين) تمتد من واسط إلى خوزستان في منطقة (الطيب ماثا ) بعد هجرتهم ونزوحهم من مدينة حران وقبلها من فلسطين ، كما ورد ذلك في أحد كتب المندائيين كتاب (حران كويتا)3 المدون باللغة المندائية .

أشار الأستاذ عبد القادر سلمان المعاضيدي في كتابه (واسط في العصر العباسي) بصفحة (202) :
(وقد سكن الصابئة هذه المنطقة قبل الفتح الإسلامي، وعندما جاء الفتح الإسلامي ذهب وفد من الصابئة لمقابلة القائد العربي المسلم وعرضوا عليه أمرهم فأقرهم على دينهم فأكسبهم ذلك التسامح الديني كأصحاب كتاب وبقوا بين المسلمين يؤدون الجزية.) مما زادهم قوة ومنعة.

ويضيف (المعاضيدي) في نفس الصفحة (ويبدوا أن سبب اقامتهم في هذه المنطقة يعود إلى ما في ديانتهم من فريضة الاغتسال والتغطيس في المياه الجارية، حتى اطلق عليهم بعض المؤرخين العرب أسم (المغتسلة) وأطلق عليهم البعض الأخر أسم (الصابئة البطائحية).
وفي صفحة (204) من كتاب الأستاذ المعاضيدي (واسط في العصر العباسي) يقول: (غير ان سرية ديانتهم، وقلة من يعرف لغة كتبهم الدينية، وكتمانهم لها أدت إلى اختلاف رأي الفقهاء فيهم، فالفقيه أبو يوسف (صاحب كتاب الخراج) اعتبرهم من أهل الذمة ،وتؤخذ منهم الجزية، إلا أن الخليقة القاهر بالله (320 – 322 هـ / 932- 933 م) عندما استفتى الفقيه أبا سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد الأصطخري في حقهم أفتاه بقتلهم، (لأنه تبين له أنهم يخالفون اليهود والنصارى) وأن لا تؤخذ منهم الجزية.)

فقد كتب الأستاذ عزيز سباهي ***في كتابه الموسوم (جذور الصابئة المندائيين) صفحة (193) ما نصه (ونحن تعرف ومن كتاب حران كويتا أن(أنش بر دنقا) وكان يشغل أعلى المراكز الدينية عند المندائيين، قد ذهب وبصحبته مجموعة من وجهاء المندائيين إلى قائد الجيش الإسلامي وأوضح له طبيعة دينهم وعرض عليهم كتابهم الديني (الكنزا)4 لكي يضمن لقومه التسامح الذي خص به القرآن أهل الكتاب، وقد تم له ذلك).

وفي صفحة (180) من كتاب الأستاذ عزيز سباهي يقول : (ورد في كتابهم (حرّان كويتا) أنهم كانوا جماعة كبيرة، وأن في الأيام الأولى من وجودهم في بلاد ما بين النهرين وليس في ميسان وحدها، كان هناك أربعمئة مشكينا (أي مندي، وهو المعبد المندائي) .

وعن دور الصابئة في المساهمة في بناء الحضارة في بلاد الرافدين يشير الأستاذ (عزيز سباهي) في صفحة (9) من كتابه (جذور الصابئة المندائيين) ( لعب الصابئة، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة، دورا ً ملحوظا ً في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد مابين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام، ولاسيما بعد ازدهار الحضارة العربية ــ الإسلامية أيام العباسيين، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية ـــ الإسلامية ) .

يشير الأستاذ عبد القادر سلمان المعاضيدي في كتابه ( واسط في العصر العباسي ) في صفحة (203) لقد سكن الصابئة المندائيون في الجانب الغربي من مدينة واسط وكان لهم درب خاص بهم سمي ( درب الصاغة) لانهم كما يشير المؤرخ (الخطيب البغدادي) اشتهروا بمزاولة الصياغة كحرفة خاصة بهم. وأن بعضهم دخل في الإسلام. وليست لدينا معلومات عن تعدادهم وأحوالهم في هذه المدينة.)
ويشير الأستاذ عبد القادر المعاضيدي في بحثه لقد ساعد وجود (الصابئة) في واسط على ظهور(علم الفلك) فيها لمعرفتهم الواسعة في علم الفلك والرياضيات تلك المعرفة التي نقلوها معهم من مدينة حران المشهورة في علم الفلك. ويشير الى وجود (البيت المندائي) الذي يعد من أهم البيوتات التي ساهمت في بناء وتطوير الحياة الفكرية والثقافية في واسط ، فيقول ( إذ اشتهرت في واسط عائلة عريقة في القضاء والعلم والرواية وهي من اصل (مندائي) ساهمت في تطور الحياة العلمية فيها.

ومن أبناء هذه العائلة المندائية كما ورد في كتاب الأستاذ عبد القادر المعاضيدي :

1 ـــ القاضي أبو العباس أحمد بن بختيار أبن المندائي توفي سنة 552 هـ 1157 م وهو قاض ٍ وكاتب .
2 ـــ أخوه أبو السعادات علي بن بختيار أبن المندائي وكان أديبا ً وشاعرا ً وكاتبا ً وقد تولى القضاء في واسط .
3ـــ أبو الفتح محمد بن بختيار أبن المندائي توفي سنة 605هـ ــ 1208 م وقد تولى القضاء في واسط .
4 ــ أبو حامد محمد بن محمد أبن المندائي فقيه توفي سنة 602 تولى القضاء في واسط .
5 ــ أبو العباس أحمد بن محمد أبن المندائي وكان من رجال العلم والحديث توفي عام 642 هــ

كتبت في مالمو/ السويد
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) بحشل : هو (أسلم بن سهل الواسطي) توفي في (292) ألف كتاب ( تاريخ واسط ) وقد كان من كبار الحفاظ العلماء من أهل واسط ، وقد حقق الكتاب كوركيس عواد.

( 2 ) كتاب (واسط في العصر العباسي) للأستاذ عبد القادر سلمان المعاضيدي ، أستاذ العلوم الإسلامية، والكتاب دراسة تاريخية قيمة عن أحوال واسط الإدارية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وكذلك عن الحياة السياسية وطوائفها الدينية خلال العصر العباسي لفترة من ( 324 هـ لغاية 656هـ ) أو (953 لغاية 1258م) .أصدار الجمهورية العراقية /وزارة الثقافة ولإعلام في 1983
* النبط : هم من الآراميين سكان العراق القدماء وكان هؤلاء يسكنون البطائح ويشتغلون بالزراعة وقد أطلق المسلمون بعد فتح العراق على سكان السواد اسم النبط . المصدر السابق

** الزط : أصلهم من بلاد السند وهم مربو الجاموس وقد تحولوا أخيرا ً إلى قطاع طرق حتى قضى عليهم الخليفة المعتصم وكان يقدر عددهم قرابة ( ألـ ) 27 ألف . المصدر السابق
وكذلك تشير عديد من المصادر ان الزط هي إحدى أسماء الغجر . فقد ورد في كتاب ( الغجر الظرفاء المنبوذيين ) الطباع والدكتور منذر الحايك : يعدد الكتاب بعض التسميات العربية القديمة للغجر كالزط والسبابجة، وتجمع المصادر العربية على أن الزط قوم من بلاد الهند وبالتحديد من حوض نهر السند، ويعتقد أن (زط) عرّبت عن أصلها (جت) وهي باللغة الهندية اسم هؤلاء القوم الذين كانوا يعرفون بـ(زنوج الهند) بسبب بشرتهم السمراء .

*** الأستاذ عزيز سباهي : كاتب وباحث له العديد من الإصدارات والدراسات والبحوث، وكتابه ( (أصول الصابئة المندائيين ) الناشر دار المدى للثقافة والنشر / الطبعة العربية الأولى 1996 . يعد من الدراسات القيمة التي أضيفت للمكتبة العربية فيما يخص الديانة المندائية لما احتواه من مصادر غزيرة متنوعة بالإضافة إلى تحليلاته وشروحاته الوافية.

( 3 ) كتاب ( ديوان حران كويتا )أو( ديوان حران كويته ) وهو محاولة لعرض تأريخ الطائفة المندائية منذ أيام يحيى. وقد وضع الكتاب ودون في بداية العهد الإسلامي الأول.وقد ترجمته السيدة دراور ونشرته سوية مع كتاب ( تعميد هيبل زيوا ) في الفاتيكان عام 1953.المصدر:عزيز سباهي ( أصول الصابئة المندائيين) ص15

( 4 ) كتاب الـ ( كنزا ) هو كتاب ( كنزا ربا ) أو الكنز العظيم ، أو السيدرا، هي جميعها أسماء لكتاب واحد ألا وهو الكتاب المقدس للصابئة المندائيين، وكنزا يكتب بالمندائية بالجيم وليس بالكاف وأثرنا على كتابته بهذا الشكل لان المندائيين ينطقون الجيم كاف. المصدر ( أسماء الأعلام المندائية في ( كنزا ربا ) ص2 وهو دراسة ماجستير في اللغات السامية ( اللغة المندائية ) ـــ جامعة بغداد 1997 للأستاذ عبد المجيد سعدون الصباحي.