يبدو أن العرب إحتاجوا لقرن من الزمان لفهم الشيوعية , ووعي مرتكزاتها الفكرية ونظرياتها الإقتصادية.
ولازلت أذكر وأنا صغير لا يفهم ما يدور في مدينته , المسيرات التي تتعالى فيها الهتافات ” حمامة حقية تسقط الشيوعية” , وعندما كنت أسأل عن معنى الشيوعية يقال لي “أنها لا تؤمن بالدين أو تعادي الدين” , ومضينا على هذا الفهم العقيم!!
وكانت مدينتنا وكأنها منقسمة إلى حزبين , فالجزء الجنوبي محسوب على الشيوعية , والأجزاء الأخرى على القوميين وغيرهم.
وبعد أن درجتُ أخذت أسمع عن قصص أبناء المدينة المنتمين للحزب الشيوعي وما حلّ بهم , وأكثرهم في سجن “نقرة السلمان” , ومعظمهم إنتهوا إلى مصير مجهول.
ودارت الأيام ووجدتني في دول أوربا الشرقية , التي يُقال عنها اليوم بأنها فقيرة أو تعاني , وهي أفضل من أية دولة في المنطقة العربية , وقد إنبهرت بالعمران وإكتمال الخدمات والبُنى التحتية , بكافة أنواعها , وكلما تساءلت عمَن بنى وشيّد وعمّر يكون الجواب ” الإتحاد السوفياتي” !!
فهذه الدول حكمتها الأحزاب الشيوعية وإنتقلت بها إلى مصاف الدول المتقدمة , وأطلقت القدرات وإجتهدت في الصناعات , وبرغم ما حصل بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي فأنها لا تزال دولا ومجتمعات متماسكة , ومتباهية بعمرانها وتطورها وقدرتها على التقدم والمعاصرة.
تحدثت مع العشرات من عامة الناس والمثقفين في هذه الدول ووجدتني متسائلا , عن الفهم الخاطئ للشيوعية الذي تم حشوه في أدمغتنا وبرمجتنا على أنها عدو الدين وتستعبد الإنسان!!
إحترت في الأمر كثيرا , فهذه الدول فيها أماكن للعبادة قائمة فلم تهدم المساجد والكنائس, وفي الصين الشيوعية يوجد عشرات الملايين من المسلمين , ومئات المساجد والجوامع بل وفيها جامع غائرٌ بالقِدم , ولا يزال شامخا ومتفاخرا بدوره في الحياة.
قلت إحترت لأن أنظمتنا قد ضللت أجيالها وكذبت عليها , وإستخدمت الدين وسيلة لتبرير نزعات وتطلعات ومشاريع , ويبدو أيضا أن العمائم بألوانها وأنواعها قد تم تسخيرها أو توظيفها لأغراض سياسية , خصوصا أبان الحرب الباردة لتفتي بما تفتي به , حتى تم إستخدامها لدفع المغرر بهم في حرب أفغانستان , بدعوى محاربة الشيوعية التي تحتل بلدا مسلما, وفقا لفتاوى وتنظيرات مخادعة ومسيسة , مما أدى إلى ما هو الحال عليه من الإضطرابات المتعاظمة.
فالمعممون أما كانوا في جهل مدقع , أو أنهم كانوا مُسخرين لتنفيذ أجندات الحرب الباردة , فألبوا الناس على الشيوعية , وحاربوا المنتمين للحزب الشيوعي , وأذاقوهم مرارات العذاب والهلاك.
فلماذا الإنسان في المجتمعات الشيوعية كان في عيشة راضية , إذا كانت ضد ما نراه ونتصوره؟
ولماذا لم تتمكن الدولة الشيوعية العربية في اليمن أن تقوم بإنجازات مثل دول أوربا الشرقية ؟
من الواضح , أن العيب ليس في الشيوعية وحسب, وإنما بالبشر المُسيّر والمُسخر لتنفيذ الأجندات والمشاريع , فأعداؤها بأجمعهم كانوا من المُجندين لخدمة برامج الحرب الباردة , ولا تفسير آخر سواه , لما جرى وحصل في المجتمعات العربية منذ بداية النصف الثاني للقرن العشرين وحتى نهايته.
فالشيوعية على ما يبدو ليست عدوّ الدين , وإنما الدين أفيون الشعوب الجاهلة بالدين , ويا ليته كذلك وحسب , لأن الأحزاب الدينية الحاكمة اليوم , قد برهنت على أن الدين وسيلة ناجحة لإفناء الشعوب ومحقها عن بكرة أبيها , وهذا ما تعيشه المجتمعات العربية منذ ألفين وثلاثة وحتى اليوم , ولو أنها أدركت معاني أن الدين أفيون الشعوب , لما حوّلته إلى فناء للشعوب!!
فهل أن الشيوعية كانت على حق والذين أفتوا ضدها على باطل؟!!