19 ديسمبر، 2024 12:00 ص

ظلت الصورة القاتمة التي يكتنزها اهل السنة في المملكة العربيةالسعودية تجاه مواطنيهم الشيعة، هي المسيطرة في الذهنية السنيةبشكل عام، والسلفية بشكل خاص. وقد استمرت هذه الصورة خلالالفترتين الاولى والثانية من الحكم السعودي، اما الفترة المعاصرة فقدتأثرت سلباً وايجاباً بحوادث ومواقف سياسية وعسكرية بدءاً بالتفاهمالذي حصل بين الملك عبد العزيز واهل القطيف بعد هزيمة الحاميةالتركية وانسحابها من الاحساء وانضمام المنطقة للدولة السعوديةالثالثة عام 1913، وما تبعه من اندلاع الحركات المطلبية لابناء المنطقةمنذ اواخر الاربعينيات وحتى منتصف السبعينيات، مروراً بالحدثالخطير في التاريخ الشيعي المعاصر بل وفي كل المنطقة، وهو نجاحالثورة الاسلامية وتسلمها السلطة في ايران عام 1979، وتحريضهاللشيعة السعوديين على تنفيذ الثورة الداخلية على الحكم السعودي،واستمرار التأزم خلال فترة الثمانينات وحتى قرار المعارضة الشيعيةباجراء تفاهمات مع الرياض ثم العودة الى الوطن في عهد الملك فهدبن عبد العزيز عام 1993، وصولا الى تفجير الخبر عام 1996، وماتبعها من احداث ذات علاقة بشرق السعودية.

يرتبط الوجود الشيعي في منطقة الخليج العربي بتداعيات وتغيراتسياسية وتاريخية شهدها الحكم العربي والاسلامي خلال الفترةالتالية لاستشهاد امير المؤمنين عثمان بن عفان وحتى زوال خلافة بنيأمية وتأسيس الخلافة العباسية وما خلفتها من دويلات وحركات ثورية، الا انه وحتى تاريخه لم يتم الاتفاق بين المؤرخين بشكل عام ولابين مؤرخ سني وآخر شيعي بشكل خاص على تحديد معين يؤرخ بهالوجود الشيعي في منطقة الخليج العربي وبالتالي ما زال اللغظوالاختلاف مستمراً في تاريخ التشيع والشيعة في السعودية الذيتعرض كما تعرضت قضايا كثيرة في تاريخنا الاسلامي للمغالطاتوالافتراءات ان لم نقل الكذب المتعمد بزيادة او نقصان او اختلاقلاسباب سياسية او طائفية ومذهبية.

رغم الاعتقاد بأن التشيع بصيغته واصوله الحالية داخل السعوديةيعتبر وافداً من العراق واليمن، الا انه اصبح حالياً يشكل مكوناًرئيسياً من مكونات التركيبة السكانية في السعودية، بل يمثل الغالبيةفي بعض المناطق كالقطيف، حيث المذهب الاثنا عشري، وهذا لا يعنيانه حديث الوجود بل هو تواجد قديم ارتبط باحداث وظروف سياسيةمعروفة لكل متابع.. كما ان هناك وجوداً آخر للمذهب بشكل بارز فيالمدينة المنورة، اما نجران، ففيها الغالبية الاسماعيلية، وهناكمجموعات صغيرة للشيعة متفرقين في بعض مناطق الحجاز.

اما عديد المواطنين الشيعة او نسبتهم السكانية في السعودية، فالواردحولها ارقام وتخمينات متفاوتة والكلام فيها بين افراط الاقلية وتفريطالاكثرية وتعتيم الحسابات السياسية والامنية، وهذا حال مشاهد فيغالبية البلدان الاسلامية التي تعاني من مشكلة اقليات طائفية اوعرقية من ايران شرقاً حيث مشكلة المواطنين السنة والعرب مع الاكثريةالحاكمة من الشيعة الفرس، وحتى موريتانيا غرباً، حيث مشكلة الاقليةالافريقية مع الغالبية العربية.

وكما يبالغ بعض الكتاب الشيعة في تهويل نسبتهم السكانية الى20% من سكان السعودية، في المقابل نجد التيارات الوطنية المغايرةللشيعة تبالغ بنفس الدوافع في تهوين النسبة الى 5%، ولم يقتصرالجدال في النسب والارقام على الافراد والتيارات بل دخل بعضمراكز ومؤسسات البحث والدراسات بحكم تخصصها في هذاالجدالوكل ما ذكر في هذا المجال من قبل المركز او المؤسساتالبحثية، فضلاً عن الافراد والجماعات هو في الواقع مجرد ردود افعالاو محاولات بحثية في احسن حالاتها، الا انها لا يمكن التعويل عليهاكثيراً او اعتمادها كمراجع مطلعة او مسلم بها في قضية حساسةكنسبة وعديد المواطنين الشيعة في دولة كالسعودية، يصعب فيها علىالباحث الوطني الحصول على المعلومة السياسية او الامنية التي عادةما تحاط بالسرية، فضلاً عن الباحثين والمؤسسات الاجنبية، والجهةالوحيدة التي تملك حصراً مثل تلك المعلومات، هي وزارة الداخلية التيبدورها لم يصدر عنها أي احصاء او تصريح بهذا الخصوص، ولمتسمح لأي جهة علمية او بحثية خارجية، باجراء مثل تلك الاحصائياتداخلياً، كما انها لم تعتمد على أي جهة رسمية محلية في تحديد ماذهبت اليه من ارقام ونسب.

الا ان الواقع المشاهد للجميع، يظهر ان عملية التكاثر والتناسل بينالمواطنين الشيعة، تعتبر اكثر من غيرها في بقية المناطق نتيجة الزواجالمبكر وثقافة التكاثر التي يتمسك بها المجتمع الشيعي بدعم معنويومادي من مرجعياته الدينية ووجهائه المقتدرينوامام هذا الواقعالاشكالي في تكوينه وفي التعامل معه كذلك، ستظل قضية نسبةالشيعة مثاراً للجدل والتخمينات، بل والمزايدات من الداخل والخارج.

ان مناقشة قضية عديد الشيعة ونسبتهم السكانية، تستدعي بشكلطبيعي نقاشاً آخر او قراءة تستهدف التنوع الفقهي والسياسي داخلالمذهب الشيعي بشكل عام، وفي المشهد الشيعي السعودي بشكلخاص.. ففي مراحل تاريخية سابقة كانت الساحة الشيعية تعجبالمدارس والفرق والجماعات، وبفعل الغلبة الفقهية واحياناً السياسية،اصاب معظمها الضعف، مما ادى بعد ذلك الى اندثارها، وزال تأثيرهاالفقهي والفكري ولم يبق من تلك الفرق المكونة للمذهب الشيعي الاثلاث فرق رئيسية في العالم بشكل عام.

وتمثل السعودية نموذجاً مصغراً لذلك التنوع الشيعي، حيث تضمالتركيبة السكانية السعودية ثلاث فرق رئيسية:

الاولىالامامية الاثنا عشرية ومكانها في منطقة الاحساء والقطيفشرقاً والمدينة المنورة غرباً، وهي الاكبر حجماً وتأثيراً في الحركةالمطلبية السعودية.

الثانيةالاسماعيلية في نجران.

الثالثةالزيدية، وهي الفرقة الشيعية الاقل من حيث الحجم والتأثيرفي السعودية، ويتوزع اتباعها في عدة مناطق سعودية في الجنوبوالغرب

وغالبية التوجه الشيعي في السعودية، لا يخرج عن نطاقين الاول،الخط التقليدي، واصحابه من المحافظين على الموروث الدينيوالاجتماعي، ويفضلون الابتعاد عن الاشتغال بالسياسة، ويرفضونأي مواجهة مع الدولة. والثاني التيار الحركي، وهم المشتغلون بالعملالتنظيمي والشأن السياسي، ويندرج تحت هذا العنوان مجموعةالتنظيمات الدينية التجديدية والثورية والاحزاب السياسية العلمانية

هناك صورة نمطية وحادة رسمت في الذهنية الشيعية منذ اربعة عشرقرناً عن اهل السنة، وغذيت عقائدياً وتربوياً من خلال المراجع الدينيةواستخدمت في عدة مراحل تاريخية من جهات سياسية اقليمية، كمااستخدمت الشعارات السنية كذلك ولنفس الاسباب.

اغلبية السعوديين السنة من غير الباحثين لا يعلمون ان هناك فوارقواتجاهات اصولية ومدارس فقهية متعددة داخل البيت الشيعي فيالسعودية، كذلك يجهل كثير من السعوددين تعدد التوجهات السياسيةوالحزبية لدى مواطنيهم الشيعة، وكما ان هناك تفاوتا داخل المشهدالشيعي في الولاء السياسي الداخلي، كذلك يوجد تفاوت في الولاءالخارجي.

والواقع الشيعي كما الواقع السني متنوع في اتجاهاته السياسيةوتفريعاته الفقهية، وكذلك ينشط التيار الاصلاحي في الوسط الشيعيبذات الدوافع الوطنية التي تحرك الاصلاحيين في الوسط السني، وفيالمقابل يوجد الغلاة والتكفيريون في الواقع الشيعي كما الحال لدىالسنة.

هذا الحال او المسافة بين اهل الشرق وبقية الجهات الوطنية، وهذاالواقع الشيعي السعودي.. لا يمكن قراءته ومن ثم فهمه وتحليله بشكلعلمي ومتجرد ومفيد اذا ما تناولنا الواقع الشيعي بمعزل عن تاريخه،وكذلك اذا ما قرأناه كمرحلة تاريخية مستقطعة من سياق الذاكرةالمعرفية الاسلامية.

ويعتقد ان دراسة او تناول الوضع الشيعي في السعودية يستبعد اويتجاهل العوامل والمؤثرات التاريخية والدينية والسياسية ستنعكسسلباً على دقة وواقعية النتائج وبالتالي ضعفاً في التحليل ومخرجاته،مع قناعاتنا وتأكيدنا على ان الحالة الشيعية السعودية شهدت تطوراًوانفتاحاً على المستوى الوطني، حيث تمكنت شخصيات دينيةواجتماعية شيعية من تحقيق خطوات جريئة ومتقدمة تجاه اعادة قنواتالاتصال مع بعض شركائهم في الوطن وقد وجدوا تجاوباً ايجابياًمماثلاً ساهم في ترميم بعض الجسور المهدمة منذ قرون.

هذا التطور لا يقتصر على علاقة المراجع والفعاليات الشيعيةوانفتاحها على بقية التوجهات والتيارات المحلية بل يلاحظ الزائرللمناطق الشيعية ان هناك تطوراً مشاهداً لافتاً للوضع المعيشيلسكان المنطقة.. وهذا الوضع كان من المفترض مشاهدته منذ عقودخاصة، ان مصادر ومخازن الذهب تحت اقدامهم ومن حقهم كما هومن حق بقية الشعب ان يتمتع بثروته، وان يعيش وفقاً للامكاناتالحقيقية للبلد.

قبل سيطرة نظام الملالي على السلطة في ايران، لم تكن الساحةالايرانية تمثل اهمية تذكر بالنسبة للشيعة العرب وخاصة السعوديينالذين كانت وجهتهم الدينية وعلاقاتهم الثقافية والحركية في حدودالمنطقة العربية القريبة من البحرين والكويت، وقبل ذلك في العراقحيث المراجع الدينية والاماكن المقدسة لدى الشيعة في كربلاء والنجفحيث تحولت تلك الاماكن/ الاضرحة الى مراقد ومزارات تحيط بهامؤسسات اجتماعية وتعليمية ودينية تبذل فيها الدموع كما الاموالولقد تمكن شيعة السعودية من توثيق وتأصيل علاقتهم الدينية والحركيةبالمرجعيات في العراق وفي البحرين والكويت حيث بلغ النشاطالشيعي بشقيه الفكري والتنظيمي مراحل متقدمة، ورغم ما كانتتعانيه ايران من ازمات ومواجهات بين نظام الشاه وطبقات الشعب ولاسيما رجال الدين، الا انها لم تكن محركاً للاصولية الاسلامية كما هيالحال بعد قيام الجمهورية الاسلامية على انقاض النظام الملكي.

لكن قبل ان تتحول علاقات التمرد والثورة في المناطق الشيعيةالسعودية ناحية اليمين المذهبي متأثرة بنجاح المرجعيات الدينية فيالاستيلاء على السلطة في ايران عام 1979، لم تكن الساحة الثقافيةاو السياسية الشيعية السعودية قد شهدت أي تنظيم سياسي علىاساس طائفي حيث كانت الفعاليات الشيعية حينها تتحرك من خلالالتشكيلات والتيارات السياسية الفاعلة آنذاك كالقوميين واليساريين،وكان الاصوليين الشيعة يتعاطفون مع اصحاب التوجه القومي بالحدودالتي تبعدهم عن التيار الشيوعي وذلك لاعتبارات دينية

وغالباً ما يظهر الفعل السياسي الشعبي المحلي مستوحياً مبادئه منخارج الحدود، فالبيئة السعودية السياسية والثقافية ظلت جافة لفترةطويلة، ولهذا الواقع عدة اسباب، منها التجهيل الثقافي والتأخيرالمعرفي الذي فرض على وسط وجنوب الجزيرة العربية خلال القرونالثلاثة الاخيرة، وذلك لاسباب سياسية، اضافة الى استخدامالمرجعيات الدينية في مواجهة الاصوات التحديثية والتصدي لأيمحاولة اعتراضية او مطلبية لتغيير او اصلاح الواقع السياسي المعتمدعلى المفردات الصحراوية المعادي للتيارات الفكرية والسياسية التقدميةخلال الخمسينيات والستينيات وحتى التيار الديني الاصلاحي خلالالتسعينيات التي كانت في مجموعها تروج لمفردات المشاركة فيالسلطة والعدالة وتوزيع الثروات والتعددية السياسية….

ان المطالب المطروحة بقوة في المشهد الشيعي السعودي اليومالحريات الاساسية والمشاركة في السلطة والثروة، هي من ضمنالازمات العامة والشعبية خارج الدائرة الحاكمة ولا تتعلق بطائفةبعينها، وكذلك الوضع في القطيف ونجران والمدينة المنورة، جزء منمشكلة متوارثة ومكررة في كل بلادنا. وهذا التوصيف لا يعني انه لميكن هناك بعد طائفي في المشكلة بل يعني ان الاختلاف المذهبيوالفكري على المستوى الشعبي ليس هو اصل المشكلة، وان كان جزءاًمنها بل المشكلة في الصياغات الثقافية والسياسية التي اعتمدتهاالعقلية المسيطرة خلال فترات الحكم التالية للخلافة الراشدة، وما زالتمعتمدة حتى الآن، كما هي متعلقة بنظرة الفئة السائدة لبقية الفئاتالمسودة، وكما ان هناك من الشيعة من عانى الظلم والحرمان كذلك يوجد في السنة من هو مظلوم ومحروم ينشد العدالة، ويتساءل عنحقيقة الرايات الدينية المرفوعة.

وبناءً على ما قرأناه من تاريخ وتراث وما حصل من احداث يبقىالمشهد الشيعي محصوراً بين التهميش الداخلي والاستغلالالخارجي، وعليه سنتخيل المستقبل وفقاً لما يقرره الفعل الشيعي اذا مااختار ظل الحسن او خيل الحسين.

…………………

الكتاب

الشيعة السعوديون، قراءة تاريخية وسياسية، تأليفابراهيمالهطلان، ط1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2009، 276 صفحة