من يحلل تاريخ العراق السياسي بروح وطنية نقية من الأيديولوجيات و مهتمة بمصالح البلد سيجد منذ تأسيس الدولة قبل 100 عاما ولغاية الآن لم يشهد العراق ظهور أي مشروع سياسي حقيقي يخدمه ويرسم ملامح حضارية عصرية للبلد ماعدا مشروع الشهيد نوري السعيد باشا الذي كان لحظة سياسية متقدمة على وعي الشعب تصادمت مع القوى المحلية الجاهلة والمعادية ، مشكلة الباشا .. هي مشكلة (( إغتراب )) العقل المتفوق الذي يرى الأبعاد ويدرك المصالح ، بصورة أنضج وأوسع من مجتمعه ، ومن الطبقة السياسية المحيط به ، عاش الشهيد بين شعب لايستحقه ولم يقدر رؤيته السياسية العملية التي طمحت الى ربط الدولة العراقية بالحضارة الغربية ونقل التطور والعلم والتقدم الى بلده بواسطة التحالفات مع الدول الكبرى : بريطانيا وأميركا متبعا نهجا وطنيا واقعيا نظرا لإمكانات العراق البدائية المتخلفة التي بحاجة الى الإعتماد على الغرب ، فكان لابد من نهج ( الفصل مابين السيادة والمصالح ) ، لكن لم يستوعب الغوغاء من حوله هذه الحاجة ، لتأتي بعده دول الخليج العربي وتسير على ذات النهج وتطبق الفصل ( مابين السيادة والمصالح ) وترتبط بتحالفات مع القوى الكبرى وتحقق الإستقرار والإزدهار والرفاهية بفضل الحماية والرعاية الدولية وفي مقدمتها : رعاية أميركا ، فتأملوا كم خسر العراق من فرص ودفع الدماء وأهدر من الثروات ، وكم ربحت دول الخليج ؟!
لم يكن الجهل وحده من عرقل مشروع نوري السعيد ، فقد إنطلقت الحرب الباردة بين موسكو والمعسكر الغربي ، وبدورها مخابرات الإتحاد السوفيتي حركت الحزب الشيوعي العراقي للقيام بنشاطات تآمرية تخريبية ضد الدولة العراقية وصلت الى درجة تشكيل ميليشيا مسلحة سرية ظهرت الى العلن بعد إنقلاب 14 تموز عام 1958، كذلك حاك المؤامرات ضده جمال عبد الناصر لانه شعر بقوة مشروع الباشا القائم على ( مصلحة العراق أولاً ) بعيدا عن سخافات الشعارات القومية والعروبة والتضحية بالعراق وثرواته وأبناءه من أجل فلسطين ومصر والدخول في الحروب المهلكة ، فلجأ عبد الناصر الى تحريك العملاء من التيار القومي ضد الباشا .
من سوء حظ العراق ، كان المجتمع تسوده الأمية والجهل ، ولم يكن يقدر أهمية مشروع نوري سعيد السياسي الذي بدأ به في إنشاء (( مجلس الإعمار )) للبناء والتعمير كي يكون لنا دولة حديثة توفر الرفاهية للمواطنين ، كان المستوى الطبقي للطواقم التي مسكت السلطة ومجلس الأعمار في العهد الملكي من الناس المحترمين أبناء العوائل المرموقة الذين تربوا على العز والخير وإحترام النفس ، فكان عملهم يتصف بالنزاهة والإخلاص وتحقيق الإنجازات المفيدة للبلد ، وهذا درس هام يكشف لنا ضرورة تسلم أبناء الطبقة الأرستقراطية للمناصب العليا في الدولة وضرورة إستبعاد أبناء ( الأرياف والمناطق الشعبية ) من المناصب العليا ، الذين عانوا في طفولتهم من التخلف والحرمان و تكرست في دواخلهم الجروح والعقد النفسية والقصور الذاتي عن الوصول الى مستوى المبادئ الوطنية في إدارة الدولة ، وقد ثبت لنا بالدليل الملموس بعد إنقلاب 14 تموز ولغاية الآن بعد ان إستولى أبناء الأرياف والمناطق الشعبية على المناصب في الدولة وقيادتها الى الخراب والدمار والحروب والفساد وهدر الثروات !
المثير للغرابة والحزن .. بعد أكثر من 60 عاما على إنقلاب 14 تموز ، لم يراجع المجتمع العراقي نفسه وينقد فكره السياسي المتعفن الغوغائي ، ولم ينجب هذا المجتمع عقول سياسية مدنية وطنية بمستوى عقل الشهيد نوري سعيد وتأثيره في الحياة السياسية ، فما أتعس الحياة السياسية في العراق التي تراجعت بشكل كارثي بحيث سقطت الدولة بيد الميليشيات الإرهابية التابعة لإيراني
هامش : شكك الباحث في التاريخ السياسي الأستاذ شامل عبد القادر في رواية إرتداء الشهيد نوري سعيد لعباءة النساء أثناء هربه من الإنقلابيين ، فقد كان نوري سعيد ضابطا برتبة كبيرة وخاض مختلف الحروب وهو يمتلك من الشجاعة والكرامة ما ينفي عنه تلك الإشاعة التي أطلقها عليه زمرة من الشيوعيين وغيرهم.