إن من أهم الحاجات الإنسانية الثابتة التي لا تستغني عنها البشرية كشرط أساسي في نجاح الحياة على الأرض هي :-
1- حاجة الارتباط بالمطلق.
2- حاجة الموضوعية في القصد وتجاوز الذات.
3- حاجة الشعور الداخلي للمسؤولية.
وهذه الخطوط العامة للحاجات ذكرها الشهيد محمد باقر الصدر(قدس) في كتابه ((نظرة عامة للعبادات))..
وقد برهن من خلاله على أن نظام العبادات في الشريعة الإسلامية يشبع ويرسخ وينمي هذه الحاجات الثابتة.
والذي يهمني في هذا الأمر ما يرتبط (( بالشهيد )) لأنه يمثل الرقم الأعلى في الموضوعية والإيثار وتجاوز الذات..
لأن الشهيد يضحي بنفسه في سبيل الله، وفي سبيل العدل والعدالة، وهذه التضحية بالنفس ليست شيئاً هينا، خصوصا إننا نلاحظ أن الطغاة والمتجبرين يسفكون الدماء ويشنون الحروب وينشرون الفقر والفساد من أجل الحفاظ على نفوسهم وحياتهم…
وكذلك يمكن القول بأن الفهم المادي الغربي للحياة هو تركيز الأنانية والتمسك بالمصلحة الشخصية من أجل دفع الألم وجلب اللذة الدنيوية، فالقيم في الحضارة الغربية المعاصرة قد استمدت من الفهم المادي وجودها إلى درجة أصبحت الموضوعية في القصد وتجاوز الذات من أصعب الحاجات من حيث ضمان تحققها كشرط أساسي في نجاح الحياة الاجتماعية، لأن المجتمع له مصالحه العامة التي لا مناص منها،
وقد يتعرض المجتمع إلى العدوان الخارجي الأمر الذي يتطلب أعلى مستوى من الشعور بالموضوعية والتخلي عن الأنانية والمصلحة الشخصية…
وهذه المصلحة العامة تتطلب المخاطرة بالنفس وتعريضها للقتل من أجل الدفاع عن الآخرين وبالتالي سوف لا يجني هو (( المقاتل )) الثمرة إذا تعرض للقتل وهذا يشكل التحدي الأكبر للحضارة الغربية التي تتصف بالفهم المادي الذي لون كل شيء حتى القيم والمثل!!
والأمر ليس كذلك بالنسبة للحضارة الإسلامية وخير شاهد على ذلك الشهيد الذي يمثل الحالة الإنسانية الأرقى التي تقف على طرف نقيض مع الأنانية والاهتمام بالمصلحة الشخصية..
إن وجود الإسلام وبقاءه كان بسبب دماء الشهداء وتضحياتهم.
ولا زال سيد الشهداء الإمام الحسين (( عليه السلام )) هو المعلم الأعظم للشعوب على مختلف مذاهبها وأديانها واتجاهاتها وعصورها..
هذا المعلم العظيم الذي علم الإنسانية كيف تضحي وكيف تقاوم الظلم ولكن ما هي الوسيلة التعليمية التي كان يعتمد عليها سيد الشهداء (( عليه السلام )) ؟ إنها التضحية والشهادة…
إن الأمة الإسلامية لابد أن تشعر بالفخر من جهة ولابد أن تشعر بالامتنان للشهداء وتضحياتهم من جهة أخرى ..
ولولا الشهيد لما سقطت أصنام الطغيان ولما بان وجه الطغيان، لأن دم الشهيد يمثل الضوء الذي يفضح الظلام.
إن الله ضمن للشهيد النصر على الظالمين وهذا ما رأيناه وشاهدناه…
وعسى أن يتعظ الظالم ولكن هيهات..
أن الكلام عن الشهيد محفوف بالتقصير والقصور ولكن ينبغي أن نساهم في صناعة الشهيد لأن الشريعة المقدسة حثت على التضحية بالمال والنفس في سبيل الله إلى درجة وصفها القرآن بالتجارة التي تؤدي إلى النجاة من العذاب العظيم قال تعالى:-
(( ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )).
فإن الجهاد بالنفس هو التضحية بها فينال المجاهد درجة الشهادة ..
أن من أهم الشعائر الحسينية التي يهتم بها أتباع مذهب أهل البيت هو العزاء الحسيني أيام المحرم..
وهذا بحد ذاته يمثل صناعة حقيقية للشهيد فاللطم والبكاء وإظهار الحزن هو عبارة عن مزج العاطفة مع العقيدة وتجيش العاطفة باتجاه القيم والمثل العليا للدين والإنسانية ..
أن درجة الشهيد يطمع بها ويطمح إليها والأولياء وعباد الله الصالحين…
إن من أعظم الكلمات التي لا زال صداها يملئ كل شيء ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (( عليه السلام )) حينما ضربه عبد الرحمن بن ملجم بالسيف على رأسه وهو في المحراب يصلي قال : ((فزت ورب الكعبة )) ..
هذا الإمام العظيم الذي كانت حياته كلها جهاد وعدل وتضحية ومع ذلك ينتظر هذه اللحظة العظيمة لحظة الشهادة …
يقول (( فزت ورب الكعبة )) يقول لنا ذلك ولماذا؟
إن صناعة الشهيد من أهم أهداف الإسلام وإن دولة الحق والعدل المطلق واليوم الموعود لظهور صاحب العصر والزمان (( عج )) سوف يكون الشهيد العمود الفقري لتلك الملحمة الإنسانية العظيمة..
وأود أن اختم الحديث عن الشهيد بهذه الكلمات التي سطرها شهيد الجمعة السيد محمد الصدر في أحد مؤلفاته عن الشهيد قال ما نصه:
(( وللشهيد عدة معاني في اللغة نذكر أهمها :
فالشهيد أسم من أسماء الله سبحانه وتعالى والشهيد: الشاهد في حق والشاهد والشهيد الحاضر المهم الآن هو المعنى الآتي حيث قالوا: الشهيد المقتول في سبيل الله والجمع شهداء. والاسم الشهادة. واستشهد: قتل شهيدا . وتشهد: طلب الشهادة والشهيد الحي : أي عند ربه حي. عن النظر بن شميل قال أبو منصور : أراه تأويل قول الله تعالى عز وجل (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون )) وقالوا سبب تسميته بالشهيد:
1- كأن أرواحهم أحضرت دار السلام أحياء وأرواح غيرهم أخرت إلى البعث
2- سمي الشهيد شهيدا لأن الله وملائكته شهود له بالجنة .
3-وقيل : سموا شهداء لأنهم ممن يستشهد يوم القيامة مع النبي (( صلى الله عليه وآله وسلم )) على الأمم الخالية قال الله عز وجل (( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ))
قال أبو منصور: والشهادة تكون للأفضل فالأفضل من الأمة. فأفضلهم من قتل في سبيل الله.
وقيل : لأنه حي لم يمت، كأنه شاهد حاضر.
وقيل : لأن ملائكة الرحمة تشهده أي تحضره
وقيل : لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل .
وقيل : لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل . وقيل غير ذلك ، فهو فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول، على اختلاف التأويل .
قال أبو منصور: ثم يتلوهم بالفضل من عده رسول الله (( صلى الله عليه وآله وسلم )) شهيدا. فإنه قال: المبطون شهيد، والمطعون شهيد قال: ومنهم أن تموت المرأة بجُمع.
ودل خبر عمر بن الخطاب : أن من أنكر منكرا وأقام حقا ولم يخف في الله لومة لائم أنه من جملة الشهداء.
الكسائي : الشهيد في الأصل من قتل مجاهدا في سبيل الله. ثم اتسع فيه فأطلق على من سماه النبي ((صلى الله عليه وآله وسلم )) شهيدا، من المبطون والغرِق والحرِق وصاحب المعدم وذات الجنب وغيرهم.
أقول: أي الشهيد محمد الصدر((قدس)) يستفاد من السنة الشريفة بهذا الصدد أن هذه الشهادة تحدث لأحد أمرين :
الأمر الأول: القيام بوظيفة شرعية ضرورية، واجبة أو مستحبة وحصول الموت بسببها كالذي قتل في سبيل ماله وعرضه، ومن قتل لأنه قال كلمة الحق تجاه سلطان جائر.
الأمر الثاني: الموت مع حصول قدر داهم، لا بد للفرد على رده. كالغرق والحرق والهدم وبعض أنواع المرض المؤدي إلى الوفاة ، بل جميعها ، ما لم يكن من الفرد تسامح في إيجادها أو استمرارها .
وأعظم أنواع الشهادة عند العارفين، هو أن يصبح الفرد شاهدا أو مشاهدا لدرجات الرحمات الخاصة العليا المعدة عند الله سبحانه لأوليائه والخاصة من خلقه . ولعل المقتول في سبيل الله تعالى، إنما سمي بذلك لأجل بلوغه شيئا من هذه الدرجات من أجل همته في طاعة الله عز وجل، حتى حصول الوفاة له .)) المصدر: ماوراء الفقه الجزء الاول القسم الاول.