نظرات يائسة، وقلب يعتصره الألم،عقل طفل صغير،لا يفقه سوى لغة أبيه وأمه،وقف على شباك بيتهم الطيني في أقصى أطراف المدينة، نافذة يأطرها سعف النخيل،لا تحكم قبضتها على حر أو برد، يطالع أبيه بنظرة مودع ومشيع، وكأنه قلبه الصغير الأحمر! أحس وسمع هتاف الموت ينادي أبيه، يخفي دموعه عن أبيه بكُمه، ويتشظى بنظراته! خوفاً من أن يبصر والده دموعه، جال في خاطر ذلك الطفل المسكين،صراخ سنوات عمره، وصورٌ من ذكريات أبيه! التي ستبدأ رحلتها عن قريب..أصابع الطفل التي أخشنها الطين والحجر، كانت في كل مرة تلوح بالسلامة لأبيه! وبها أملٌ أن يعود من معارك الحشد الشعبي، ليترف كفه طفله بدمى صغيرة! يلهو بها بعد العشاء، ولكن هذه المرة لم تعد هناك فرصة لإقتناء تلك الدمى، الدمية الوحيدة التي سترجع هذه المرة،هي نعش وجنازة يلفها علم الوطن! وبيرغٌ كُتب عليه “يا حُسين” وبقيت أصابعه المرتعشة خجلاً تشاطر أبيه من بعيد الكلام! وكلما أبتعد عن أنظاره خطوة، تقاذف الطفل حمماً من بركان عينيه.
الطفل الذي لم يكمل السنة السابعة من عمره! لم يعد قلبه يحتمل! لابد أن يخبر والده بأن أنياب الموت تحيطه في هذه الرحلة! كان يردد كلمة سمعها من أحد خطباء المنبر،( القوم يسيرون والمنايا تسير معهم )، وراح يتهيأ للإنطلاق خلف أبيه راكضاً، وكأنه طير أحس بالخطر يداهم وكر أفراخه! وإذا بصوت أخته ذات الخمسة سنوات من خلفه، أخي؛ حبيبي؛” لو أرجعت أبي عن الجهاد، فمن سيمنع الأعداء من أن لا يصلوا ليقتلونا ويسبوا والدتنا المريضة؟.
تلك الطفلة البريئة، التي كانت طالما تخفي رقبتها المنتفخة عن أنظار من حولها! خوفاً من أن يعرف الجميع إنها مصابة بمرض السرطان! كانت هي الأخرى،ممن حدثها الغيب بإستشهاد والدها في هذه الرحلة! وعندما أخبرت أمها بذلك، قالت لها والدتها بنيتي؛{ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }، باتت تلك الطفلة في أمل إن الدعاء والصلاة لوالدها قد يغير المعادلة، فصرخت بصوتٌ أجهش أمها والكاتب والقارئ بالبكاء( لو كان دعاؤك لي بالشفاء سيشفيني؟ما عدت أرغب بالشفاء إن لم أر أبي ثانية).
غاب الأب عن أنظار طفليه، وراح الإنتظار يقتل الطفلين الماً وحسرة،كانا يحرصا على أن يستجمعا كل لحظة وذكرى مع أبيهما! لأنهما سيحتاجانها بعد وصول خبر أو جنازة والدهما،في كل أمسية ومع مغيب الشمس،وإطلالة لونها الأحمر! يختفيان هذان الطفلين عن أنظار أمهما! ليجلسا بعيداً عن دارهما ويبكيان أبيهما حد الإغماء،ولطالما أحس بهما بعض من حولهم، فيأتي بهما الى آمهما! للطفل كلمات أفجعت الجميع! إذ كان يقول”أهٍ لو كانت معركة أبي والإرهاب قريبة منا! لكنت أفدي أبي بنفسي،كما أفتدى أطفال الحسين أبيه”.
ليست القصة نسج من خيال! أو استجداء دموع، واستقدام عاطفة،إنها قصة الشهيد الذي ذكره المرجع الأعلى في خطبة الجمعة! بتاريخ 29/7/2016، ذلك الشاب الذي تدرع بالإيمان, والورع, والتقوى، كان جبلاً من الصبر! لساحل من الهموم،أب لثلاث أولاد مرضى، ترك نداء أهواءه ونفسه، ليلبي نداء الوطن والمرجعية! لم يفكر بطفل يغمى عليه بين لحظة وأخرى لمرضه! لم يفكر بطفلة تنهش جسدها الرقيق الترف أنياب السرطان! لم يفكر في حال أم اقعدها المرض جليسة الفراش! بالكاد تنهض لتشرب الماء!
صوت زوجته الذي هز ضمير كل من سمع أوقرأ عنها، كان أشبه بصعقة أرجعت الدنيا الى عالم الطف، ويوم كربلاء! أذ كانت تقول له بعد إن سمعت بكاء ولديها عليه “لا تقلق ياقرة عيني فللناس رب يرحمهم، وللأطفال أم ترعاهم ولابد للوطن من رجال يحمونه)،تَذكر إمامك الحسين في كربلاء! ألم يكن من الأولى بنظرنا بقاءه مع السجاد؟ كونه عليلاً! أو مع أيتامه كونهم فقدوا كل شيء؟ أو النساء لأنهن بلا كفيل وحمي؟ يقتادونهن الأعداء سبايا من بلد الى بلد!.
وأخيراً؛ وأنا أمسح دموعي أقول: (أين أنت أيها المجاهد العظيم؟ وأنت تبني الوطن بدمك الطاهر! ويهدمه المتسلطون بمعاول فسادهم!؛ أين أنتم أيها الأطفال؟الذين تزجون بأبيكم شهيداً للوطن! لكي تقروا عيناً به! وبينما أطفال السياسيين يلعبون ويمرحون في متنزهات وألعاب دبي ولندن وأربيل؛ أين أنتِ أيتها الزوجة الصالحة العظيمة؟ وأنتِ تقدمين ملابس المنية لزوجك فداء للوطن والدين! كما قدمت زينب فرس المنية لأخيها الحسين! وهل مرضك الذي سيدخلك الجنة،كمرض ضمائر السياسيين،الذي بات ينهش الوطن بسرطان الفساد! جيلاً بعد جيل).
وختاماً؛ الكل سيرحلون! وكلهم سيفنون! إلا أنتم الخالدون! صبراً يا آل الحشد الأوفياء فأن موعدكم الجنة، وآل “ياسر” بالإنتظار