23 ديسمبر، 2024 6:17 ص

قصة قصيرة
اهتزت الارض ، وسمع دويا مألوفا كأنفاسه ، فثمة عجلات حجرية هائلة كالرحى تسحق كل شيء في طريقها تقترب منه ،اعتاد على الهروب منها مذ ان ابصرت عيناه النور ، عليه ان يتحرك مبتعدا عنها، ذلك المنطق الذي نشأ عليه ، والا اطاحت به ساحقة اياه ، كما سحقت اسلافه ، ونهض .
(يكفي ان امشي مبتعدا لأتقي شرها ، عليّ ان اتحرك طالما كنت حيا ) .
ووصل لمسافة اعتقد انها امينة ، وافترش الارض .
تطلع الى السماء الصافية ، فبهرته مجاميع النجوم وسحاب السُدُم  ، والقمر وكأنه بملامح انسان حزين ، يرثي اهل الارض ، مشفقا عليهم .
أسترعى انتباهه شهاب جميل ، يقطع كبد السماء فآسره جماله ، وسعيه بلا هوادة الى حتفه ، وجالت عيناه متتبعا ذيله البراق الاخاذ .
عاش معه لحظات جميلة ملؤها التأمل وكأنه يسأله (من اي مجهول اتيت  أيها الشهاب ؟ لماذا أنت مُسرع ٌ هكذا ،منذ متى وأنت هائم في الكون ؟ ، وأين سيكون مستقرك الابدي؟ متبعثرا في السماء حيث الفناء ، أم في حفرة في جوف الارض؟) ، إنها من المرات النادرة التي يستطيع أن يرى فيها الأفاق في الظلام ، بفضل ذلك الشهاب.
وتلاشى الشهاب ، فشعر بالحزن ، وتذكّر رثاء القمر ،عاد الظلام وكأنه قاعدة ، تشذ عنها الشهب من حين لحين ، لماذا عمره المضيء قصير هكذا ؟ .
أخذ يدور في فلك تساؤلات لم يستطع الافلات منه: لماذا عمر المصلحين والطيبين قصير كعمر هذا الشهاب ؟ ، لمَ الهدمُ اسرع من البناء ؟ ، لماذا الكون مظلما لولا الشموس ؟ ، يكون الموت في لحظة ، ولكي تكون الحياة ،على الانثى ان تقترب من الموت لتلد ، لا أحد يسعى للمرض ، لكن علاجه طويل ،ان كان ثمة علاج ، هل دائما منطق الحياة ظالما ؟ ، الاحزان كثيرة ، الافراح قليلة ، لا يزول الالم بطرفة عين ، لكنه يأتي بلا استئذان ، وما أفسده الدهر لا يمكن اصلاحه ، وكل قوي للزمان يلين ،وهذه الماكنة الجهنمية ، تدوس كل من يتلكأ.
قاطعه صوت هدير العجلات ثانية ، ونهض ، ومشى ، لكنه اكتشف ان المشي ليس كافيا ، عليه ان يهرول هذه المرة والا ظفرت به ماكنة الموت ! .
كان يرمق السماء ، ملهمته ، بنظرات ، لكنه لا ينسى النظر للخلف ، اعترى نظره قصورا فارتدى نظاراته ، وواصل هرولته الدؤوبة .
شعر بالتعب ، والام في ساقيه ، فجلس مفكرا :
ثمة القليل من اتقى شر هذه العجلات ، فأخذ يسير خلفها ، منهم من تمادى ، فابتعد عنها كثيرا ، فقد دفعته الرياح السوداء ، الى درجة انه أصبح خلفها ،فأخذ يدفعها بيديه فازدادت سرعتها !، لمَ لا؟ فاليد التي تخافـَها ، قبّلها ، وادعُ لها بالكسر ، لقد قبّلوها ، ولكنهم نسوا ان يدعوا لها بالكسر !.
وانتبه ان نظره قد تدهور ثانية فارتدى نظارات سميكة ، اراد الوقوف ، فشعر بالالم يطرق كل مفصل وفقرة .
( يا الهي لم تعد الهرولة كافية ، علي ان اجري ) !.
وجرى ، مستجمعا كل قواه ، احس بصعوبة في التنفس وبالم في صدره اجبره على التوقف ، ثم جلس .
( ان كانت قد حانت ساعتي ، فليكن اخر مشهد لي محببا ، القمر  ) .
وتمدد شاخصا نظره للقمر ، منتظرا ماكنة الموت المسرعة ، فرآه وكأن دمعة ً تسيل على وجهه الفضي .
اخذ المشهد يأفل شيئا فشيئا ، صار كل شيء رماديا باهتا ،وتلاشى ، مثل اخر مشهد في الافلام .