20 ديسمبر، 2024 2:42 م

الشعوذة وخراب المستقبل

الشعوذة وخراب المستقبل

الإنسان لا يستطيع أن يتحمل وضعية العجز والتقهقر ببساطة، أو أن يتقبلها بواقعيتها المادية الخام. لا بد له في كل الحالات من الوصول الى حل ما يستوعب مأساته، ويوفر له شيئا من السيطرة عليها، وإلا أصبحت الحياة مستحيلة. فإذا لم تتيسر له الحلول الناجحة التي تمكنه من السيطرة والتحكم الفعلي بالواقع على مستوى ما، لجأ الى الحلول الخرافية والسحرية. إذا عجزت السيطرة المادية على المصير، حاول المرء توسل الأوهام يعلل بها النفس ويجمل بها الواقع، يستعين بتصوراتها على تحمل أعبائه. بذلك يصل الى شيء من التوازن النفسي الضروري لاستمراره. الإنسان لا يتقبل الكارثة أو الهزيمة، لا يستطيع الاعتراف بمسؤوليته المباشرة في ما حل به. إنه إما أن يهرب من الواقع أو يلقي اللوم على الآخرين أو يستجيب بالعدوان أو يوهم نفسه بأن الأمر عادي وعابر.

السيطرة الخرافية على الواقع والتحكم السحري بالمصير هما آخر ما يتوسلهما عندما يعجز عن التصدي والمجابهة..قبل أن ينهار ويستكين. تشكل هذه السيطرة أحد خطوط الدفاع الأخيرة.

لا يفوق معاناة الحاضر عند الإنسان القلق والمضطهد سوى قلق المستقبل. فبمقدار عجزه عن مجابهة حاضره، يفلت منه مصيره. العشوائية والاعتباط الذي يتحكم بواقعه لا يسد آفاق المستقبل، بل إنه يضرب حولها طوقا من الغموض والإيهام والإبهام. هذا ما يجعل أمله مجرد أماني لا ثقة له بتحقيقها، لا قدرة له على تنفيذها. كما يقول الكلام المأثور: أتمنى في الثريا مجلسي/ والتمني رأس مال المفلس.

وضعية من هذا الحال تفجر القلق وتضخمه حتى ليكاد يقترب من القلق المرضي. يعيش الإنسان هذا في حالة انعدام للطمأنينة على صحته ورزقه وذويه ومكانته..وضعية من هذا النوع غير ممكنة الاحتمال على المدى الطويل لما تحدثه من اختلال في التوازن الحياتي الوجودي.

لا بد إذا من وسائل للسيطرة على المصير والاحتياط للمستقبل. هي وسائل خرافية بالضرورة، طالما أن الضمانات مفقودة والتخطيط منعدم والتوقعات المبنية على الجهد العام والذاتي لا أثر لها في المجتمع المتخلف خاصة. بمقدار ما يفلت مصيره من يده، فإنه يتلمس طريقه الى المستقبل وطلب الشفاء من خلال إسقاط المخاوف والرغبات جميعا على العالم الخارجي.

هذا الإنسان المتعب اجتماعيا، يلجأ الى الاقتناع بقراءة الطالع وكشف البخت والتنجيم، هي وسائل يتوسلها الإنسان لتلافي عجزه وإدخال الطمأنينة الى نفسه. تنطلق من الحاجة الى مجابهة قلق المجهول وما يتضمنه من تهديدات.

طرق قراءة الطالع متعددة، هي أقرب الى الشعوذة منها: الكتابة بالرمل، قراءة الكف، قراءة الأبراج والنجوم، قراءة فنجان القهوة، قراءة ورق اللعب… انها طرق تتراوح بين محترفون متخصصون وأخرى يقوم بها بعض العامة من الناس الجهلة في وضعية هي بين الجد والهزل في المجالس الاجتماعية أو بعيدا عن الأنظار.

المحترفون من هؤلاء يخلطون بين العلم، والروحانيات، والشعوذة. يصحبون ممارساتهم بتلاوات هي مزيج من الألفاظ المبهمة، التي لا معنى لغويا لها، التي تدل في زعمهم على لغة التخاطب مع الجن والأرواح ، ومن التسابيح الدينية والصلوات النبوية. القصد منها اللعب على الإيمان الديني لطالب الحاجة، إثارة دهشته لتمكنهم التلفظ بمستغلق الألفاظ الغيبية في مخاطبتهم للأرواح. يحيطون أنفسهم في مزيج من العلم الروحاني (المزعوم) والدين لتغطية شعوذتهم. في السنوات الأخيرة، تطورت أساليب هؤلاء وبدئوا يظهرون على شاشات الفضائيات والصحف والمجلات وغيرها ويعلنون عن أنفسهم.

كل الأساليب المتبعة من قبل هؤلاء تدور حول فكرة إدخال الوهم عند صاحب الحاجة، القلق على ذاته وعياله أو حاضره ومستقبله، أو الذي ألمت به المصائب والنوائب، والقدرة على تخليصه من قلقه وهمومه ورسم صورة وردية لمستقبله، ومساعدته في السيطرة على قدره، بالتالي إدخال الطمأنينة في نفسه.

الفكرة التي يكرسها ويدور حولها المشعوذ أثناء ممارسته لهذه الأساليب الخرافية أنه يلعب دوما على مسألة القلق والطمأنينة. فهو يثير مخاوف صاحب الحاجة ويؤكد على قلقه ويضخم الأخطار التي مر بها أو التي تنتظره كي يعود فيطمئنه على إمكانية الخلاص، واقتراب الفرج بعد الشدة، وتحسن الحال بعد عسر، والنصر على الظروف والأعداء بعد طول خسارة.

لذلك، نشر الوعي الثقافي ومكافحة الجهل وتضييق الخناق على المشعوذين، يساعد في محاربة هذه الظاهرة.. كذلك، تذكير المواطن والأفراد اللذين يقعون في حبائل هؤلاء،بالانصراف الى الله سبحانه وتعالى هو خير معين والقرآن الكريم بآياته المحكمات مساعد نفسي لكي يطمئن العقل والنفس والجسد ثم التوجه الى الطب العلمي الصحيح الذي يعالج الأوهام بتقنياته المتطورة على يد كل مختص بمجالات علم النفس..كذلك مواجهة النفس ومحاسبتها ومحاولة تقليل الطموحات الكاذبة غير المقدور عليها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات