ظهر مفهوم الدولة الفاشلة في الادب السياسي في نهايات القرن العشرين , واحتلت اسماء بعض الدول العربية صدارة القوائم السنوية التي تصدرها مجلة ( فورين بولسي ) للدول الفاشلة, وهي احدى الصفات العجيبه التي لازمت اسماء بعض الدول العربية بامتياز, اذ تحولت الى وعاء مُنتِج للأيديولوجيا الغرائبية , ومُصَدِرَه للإرهاب الدولي . لم يكن ضعف الموارد البشرية وهو السبب التقليدي لانهيار هذه الدول وفشلها , بل هو مرورها بمراحل من انهيارات هيكليه في بنائها الثقافي , إذ يشكل العراق والصومال واليمن وسوريا وليبيا اهم الدول الفاشلة في الشرق الاوسط . وتأتي خطورة الدولة الفاشلة ليس بعجزها التقليدي عن التحكم في مواردها، بل في تحويل مناخات العيش المشترك والسلم الاهلي الى منطقة احتراب تهدد الجوار والسلام العالمي. الدولة الفاشلة هي الدولة التي تعجز عن بسط القانون على الافراد والجماعات المنضويه فيها , وتفقد التأثير في قرارتها على الاحداث, والتي لا يمكنها تقديم الخدمات الأساسية لفترات طويله, وتنتشر فيها الجريمة المنظمة والاقطاعيات العسكرية والنفوذ الاستثنائي لأجهزة المخابرات الأجنبية , ويمارس على افرادها مختلف انواع القمع والقهر الاجتماعي ,ويتحول افراد الدولة الفاشلة بشكل عام الى تجمعات تقل درجة انسانيتها مع تزايد الظلم والحروب الأهلية , وتفقد معاييرها السلوكية التقليدية, اذ تتحول جل اهتماماتها على البحث عن القوت والبقاء, وما يسد الرمق, لتتراجع الاولويات الأخلاقية في النظرة العامة. تتميز الدولة الفاشلة بغياب الطبقة الوسطى والتي دائما” هي مصدر الثراء الثقافي والسياسي لأي دوله، وبالتالي فقدان حلقة من حلقات الدورة الطبيعية في كيان الدوله. وأيضا” تتميز بالقطيعة شبه الكاملة بين المجتمع والسلطة بحيث تتناقض اولوياتهما , ويظهر ذلك بعدم الانسجام في الموقف من القضايا الإقليمية والدولية, كالتناقض الذي يحدث الان في العراق تجاه قرار الكونجرس الامريكي الداعي الى تقسيم العراق. بالإضافة الى ذلك تتميز الدولة الفاشلة باستقطاب الجماعات البشرية في مراكز قوى، وصناعة قائمة أعداء وخصوم، ثم تقوم بتشكيل وعي الجماعات الموالية لتعمل وفق اجندتها، فتصنع الأجنحة العسكرية لأقطاب السلطة تحت رايات البقاء والتحدي، فيحدث اجهاض لجميع فرص البناء الموضوعي للدولة الحديثة. إن الطبيعة الملحمية والخرافية للفرد العربي وتجلياتها في افاق التفكير والحلم، وحرفية صناعة الاصنام المتوارثة جعلت من أي سياسي موتور يتحول الى بطل قومي ثم يتحول الى مشروع دوله فاشله، نتيجة توجيه موارد الدولة لأجل عبادته وتعزيز نفوذه في الدولة. فاغلب الرموز العربية التي جاءت بالانقلابات العسكرية أعادة أنتاج السيزيفيه المفرطة في الفشل الجماعي وفي دورات حلزونية الى الوراء بحيث افرغت تماما” المحتوى النوعي في صناعة الذات مثل الشعوب الحرة والتي كسرت دورات الانحطاط بإشعاع خطي وصل مداه الى الهندسة الوراثية والنانو تكنولوجي وإقامة محطات فضائية في المريخ. الأخطر من الدولة الفاشلة هو ان يفشل الانسان، عندها يفقد الشعب القدرة على صناعة الوجود السياسي الشريف ,
فبعد رحيل الديكتاتوريات , وبدل ان ينفض المواطن العربي رماد التخلف التاريخي , انجرف الى البحث عن الهويات الأثنية والقبلية فتحولت لغة الجمال ومحاكات التصور السامي الى قبح لا حدود لتداعياته، فمن إلباس غرائب السلوك الاجتماعي قداسة السماء, الى قبح التخطيط العمراني والتنمية البشرية , الى الشوارع المتسخة بالقمامة وبنفايات الجماعات المُنتجَة بأنابيب قيم التاريخ. أن صدمة انكشاف الذات العربية بعد الربيع العربي , جعلت المواطن في مواجهة مباشرة لجميع الاخطار الحديثه, بعد ان كان الاب القائد والملك المبجل بحكمته العربية (الإسلامية) يذود عن الحمى ويكفيه شر المتآمرين، حيث انكفأت الروح الثورية التي روت جيل الستينات والخمسينات وتحول الى تمرد فنتازي على أهم التنظيمات الاجتماعية وهي الدولة التي ترتبط بالمواطنة, اذا بدأ المواطن العربي لا يشعر بقيمتها الا من خلال المنفعة المؤقتة, ولم يعد قادر على ترديد شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية فابدلها بالماء والكهرباء والسلامة. يرى الكثير من الباحثين الغربيين ان مشكلة الشعوب العربية بنيويه وأنها غير قادره على انتاج صناعة سياسية متحضرة كالديمقراطية والدولة، فمثلا” انقلاب الجيش الجزائري على جبهة الانقاذ الجزائرية بدعم من فرنسا نُفِذَ تحت طائلة هذه الرؤيا , ويسوقون فشل مشروع بورقيبة في تونس نموذجا” للفشل البنيوي ويرى اصحاب هذا الراي ان العرب لم يبلغوا النضج الثقافي الى درجة الهضم والتمثيل الحضارية, ويضيف اصحاب هذا التوجه تجربة بشير الجميل في لبنان وإن كانت في ظروف مختلفة ولكنها ساعدت في وضع معيار مجحف بحق الشعوب الإسلامية وبأنها حتى لو طُبِقت الديمقراطية ستتحول الى دوله فاشله مثلما تم في تعزيز الديكتاتورية في باكستان بعد نصيحة مساعد الرئيس الامريكي جيمي كارتر له بأن باكستان لن تكون دوله ديمقراطية واسلاميه بنفس الوقت, حيث تم تعزيز الحكم العسكري فيها وفي الأنظمة العربية على مدى قرن. لن يتوقف انشاء الدول الفاشلة في منطقتنا مالم يتوقف انتاج الانسان الفاشل، وأن صيرورة الدولة الناجحة هي من صميم الصيرورة الحقيقية للإنسان الواعي لقيمته التاريخية في نضجه، وسلامة بناه العقلية، وهذا هو جوهر وجود المربي الاخلاقي , السياسي الشريف, رجل الدين المسؤول الذي يدرك وزنه النوعي في صناعة الحياة.
[email protected]