شهدت شعوب الارض بدءا من الثورة الصناعية الكبرى في اوروبا منذ بدايات القرن الثامن عشر نهضة علمية غير مسبوقة، حيث توصلت البشرية الى ناصية التطور عبر استخدام العلوم المستخدمة في الصناعة، ما شهد انتقالة في حياة الانسانية في ما بعد، اثر انتقال هذه النهضة الى قارات العالم الاخرى، واستنساخ التجارب ذاتها في اميركا وروسيا القيصرية في حينها، وشرق اسيا ثم الى المستعمرات الغربية في وسط وغربي اسيا وايضا في افريقيا.
المنطقة العربية كانت ضمن مستعمرات القوى الكبرى، وتحديدا الحكم العثماني وبعض اخر الانتداب البريطاني سواء بشكل مباشر او غير مباشر، عبر حاكم عثماني مطيع كما كان عليه الحال في مصر.
واستمرت الشعوب العربية على هذا الحال حتى سقوط الدولة العثمانية وانتدابها من دول اوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا على نطاق ضيق وتحديدا في المغرب العربي (مراكش).
ونتيجة للثورات العربية اضطرت الدول الغربية الى منح استقلال شكلي لتلك الشعوب تحت خارطة تم الاتفاق عليها بين الدولتين الكبيرتين في ذلك الحين بريطانيا وفرنسا، ومنحت مقعدا في عصبة الامم، وما لبثت الاحداث ان تطورت بشكل دراماتيكي سريع في الحرب العالمية الثانية، حتى تحولت تلك الدول من منتدبات الى دول ذات حكم شمولي عسكري، او ممالك اسرية وتم الاعتراف بها من المنظمة العالمية الجديدة المنبثقة بعد الحرب وخلفت عصبة الامم وهي الامم المتحدة ، في حين تم انتقال مركز القرار العالمي من بريطانيا الى اميركا التي ورثت النفوذ السياسي على الدول العربية من سابقتها الحليفة معها الى يومنا هذا ..
هذه الحقبة الزمنية العصيبة والمفصلية التي مر بها العرب كانت ذات مفترق للطرق، فأما النهوض بسرعة كما فعلت اليابان والصين والهند، ومن ثم دول نامية مثل كوريا الجنوبية وماليزيا ومن ثم دول صغيرة جدا مثل سنغافورة وبروناي ودول اميركا اللاتينية مثل البرازيل والارجنتين وغيرها من البلدان التي اصبحت الان قبلة للتطور المستنسخ من التطور الغربي الذي تم توظيفه بشكل امثل لدى شعوب تلك الدول، علما انها جميعا لا تمتلك مصادر الطاقة كالنفط والغاز الى اخره من المصادر الاقل قيمة.
هذا كان الطريق الامثل للعرب للسير فيه، إلا ان القرار العربي كان مخالفا للطريق السالف الذكر، حيث اختارت القيادات العربية الطريق الاخر وهو طريق التناحر على السلطة والصراعات بينها، وخلق قضايا لإلهاء شعوبها من خلال الفقر والعوز والتخلف ومحاربة الجميع، من اجل لا شيء فقط لإبقاء دولهم وشعوبهم في حالة من الصراع الدائم الذي يصعب عنده النهوض بأي شكل من الاشكال، هذا الوصف استطاعت بعض امارات وممالك الدول الخليجية التخلص منه في وقت متأخر، إلا انها استطاعت عزل نفسها من منطقة الصراع مثبتة حالة من الاستقرار السياسي والامني، وبدعم غير مخفي من دول كبرى، حيث نجحت في استثمار بعض من ثروتها لتحقيق رفاهية اقتصادية وبحبوحة من العيش الرغيد لشعوبها، لكن في الوقت ذاته لا بد من التركيز على كون الانجاز ينحصر في العيش الرغيد فقط، من دون اية نهضة علمية ترافق التطور الاقتصادي لشعوبها، كما فعلت الدول التي ذكرنا امثلة لها، حيث شتان بين انموذجين، احدهما يبني دولة ذات اساس تستطيع مقاومة الضغوط والمؤامرات الخارجية، واخر يرتبط ارتباطا وثيقا بمصلحة الدول الداعمة ..
لا نريد الخوض طويلا في هذا الموضوع لانه ليس صلب اهتمامنا بقدر الموضوع الاشمل، الا وهو المنطقة العربية واسباب توقف التاريخ لديها منذ نحو مئة عام.
التجارب العالمية المتعلقة في مجالات السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع اثبتت ان الديمقراطية السياسية، باعتبارها شرطا اساسا للتقدم في اي بلد من البلدان لا يمكن ان تكون تعددية، بل سياسية وطنية، اي ان مشاركة الشعب في الحكم لا تكون مكوناتية، بل عبر تساوي الجميع في الحقوق والواجبات عندها وبعد التخلص من النظام الشمولي المرتبط باجندات عالمية، يكون عندها الشعب المعني قد وضع الحجر الاساس لبناء الدولة التي يمكن لنظامها الديمقراطي ان يتلاعب في السياسة مع القوى الكبرى، خدمة للمصالح الوطنية والشعبية لبلاده، غير ان التلاعب سيكون على وفق مصالح متبادلة لا مصلحة الطرف الواحد والتبعية المطلقة.
المرحلة الثانية ستكون عبارة عن وضع خطة للنهوض بواقع البلد اقتصاديا، من خلال عوامل عدة لعل اولها وضع اصحاب الكفاءات في اماكنهم الصحيحة، ودعم المنتوج المحلي، وان يسود القانون المجتمع بدلا عن الاعراف المجتمعية البالية، ولا بأس ان يكون القانون نابعا من الدين ومنحازا لبعض الاعراف غير السيئة، لكنه في النهاية قانون وطني جامع يخضع له جميع من يسكن هذا البلد مواطنا كان ام مقيما ..
اما المرحلة الثالثة وهي التخطيط للوصول الى حالة الاكتفاء الذاتي صناعيا وزراعيا، الذي يرافقه فرض ضرائب كبيرة على اي منتوج اجنبي دعما للانتاج المحلي مع ضمان مراقبة السيطرة على الاسعار لقطع الطريق امام الجشعين من التجار لخلق حالة من التوازن التجاري في الاسواق المحلية.
اما المرحلة الرابعة فتتضمن رفع مستوى الناتج المحلي للوصول الى التصدير بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي، ومن ثم الحصول على مستوى دخل وطني يقلل من الاعتماد على مصادر الطاقة لتمويل الدولة، واذا ما تحقق ذلك يمكن للبلد حينها ان يقول انه مستقل اقتصاديا وغير خاضع للاملاءات والضغوط الدولية التي ترافق اسعار النفط سواء في اوبك او سياسة البيع والشراء المعقدة التي ربطت السياسات العربية للدول النفطية باجندات ومصالح الدول التي تمتلك الشركات الاستثمارية المسؤولة عن التنقيب والاستخراج او شركات الشراء، وهي بالمجمل تابعة للدول الكبرى التي تدير من خلف ستار حكومات المنطقة العربية.
المرحلة الخامسة لا تقل اهمية عما سبقتها، فهي تتمثل بفتح الدولة على المحيطين الاقليمي والعالمي امام حركة الاستثمار والسياحة العالمية لاعطائها بُعدين احدهما امني يعزز وجودها الدولي، واقتصادي يعزز ريعها الداخلي، فلا يمكن لبلد مغلق ان يصل الى ناصية التطور من دون انفتاح عالمي، كون ان الانسان تواق للعيش بروح جماعية ضمن عالم متطور واحد، وانه جزء لا يتجزأ من هذا العالم.
ان تحقق ذلك يعد بحسب وجهة نظرنا شرطا مسبقا واوليا للنهوض بأي بلد سواء كان عربيا او غير عربي على المستوى العلمي والتكنلوجي وتحقيق السيادة والاستقلال واحلام شعبه في العيش الرغيد المتناسق مع كرامة وعزة وريادة، وان سبب تخلف الشعوب العربية لا يعود الى فشل فردي في الادارة بقدر ما هو فشل اسلوب سياسي واقتصادي واجتماعي متكامل، وان المسؤول عن هذا الفشل ليس فردا او نظاما بقدر ما هو دولة بشعبها ونظامها، فلا بد لتعاون جميع عناصر الدولة للوصول الى هذا المبتغى.