23 ديسمبر، 2024 7:15 ص

الشعوب التي تصنع مصائبها

الشعوب التي تصنع مصائبها

ألا يؤكد فوز نوري المالكي مرتين بمنصب رئيس الوزراء في العراق أن هناك إثما ارتكبه العراقيون في حق أنفسهم.

حين تقع الكوارث السياسية نفكر في الأنظمة ولا نفكر في الشعوب. كل شيء رديء هو من صنع الأنظمة. الشعوب بريئة دائما من كل ما يجري لها.

مَن يجرؤ على توجيه شيء من الاتهام إلى الشعوب فإنه يرتكب إثم الوقوف مع الأنظمة ضد الشعوب. وهو إثم تاريخي قد يؤدي بالشخص الذي يرتكبه إلى الإقصاء النهائي.

“الحق مع الشعوب”. ذلك ما يُقال في اللحظة التي يحصل فيها الفراق بين الشعوب والأنظمة. ما من أحد يكلف نفسه في الالتفات إلى الوراء ليرى الألمان وهم يمدون أذرعهم مستقيمة تحية لهتلر، والروس وهم ينظرون بأعين ملؤها الفخر إلى ستالين، والملايين من العرب وهي تهدر بأصواتها مطالبة جمال عبدالناصر بالعودة عن استقالته بعد هزيمة حزيران عام 1967، وحشود من العراقيين وهي ترقص احتفالا بعيد ميلاد صدام حسين.

ما يُقال عن قدرة الأنظمة الشمولية على التحشيد الجماهيري لا يمثل إلا جزءا من الحقيقة. فليس صحيحا أن تكون كل تلك الحشود مرغمة وهي تتدافع بملايينها من أجل الإعلاء من شأن المستبد القادم بمشروع عبوديتها كما يُخيّل للبعض.

علينا هنا أن نتذكر مشهد الملايين من الإيرانيين التي زحفت إلى مطار طهران لاستقبال إمامها القادم من باريس. هل كان الخميني وهو الذي عُرف بتشدده الديني رجل حرية وكرامة؟

ألا يؤكد فوز حزبي متخلف مثل نوري المالكي مرتين بمنصب رئيس الوزراء في العراق أن هناك إثما ارتكبه العراقيون في حق أنفسهم؟

ربما يكمن أسوأ ما في تلك اللعبة أن يُقال إن تلك الانتخابات كانت مزوّرة. وهي محاولة يُراد من خلالها تبرئة ساحة الشعب من تلك الجريمة.

شعوبنا لم تتعلم شيئا مما جرى لها. وما حنينها إلى عصور الاستبداد التي يفترض أنها انقضت إلا واحد من أهم مظاهر عجزها عن العثور على بدائل تخرج من خلالها إلى الحياة

ولكن لو كان تزوير الإرادة الشعبية قد وقع بذلك الشكل المفضوح لمَ لم يبادر الشعب إلى الاحتجاج، نازعا الشرعية عن المالكي وسواه من سياسيي العراق الفاسدين الذين دبّروا مكيدة إلحاق الدين بالسياسة؟

تفضح حالة المالكي، وهو رجل دولة رث، حقيقة كانت الشعوب قد أخفتها عن نفسها. فكل ما تم تمريره على أساس أنه نوع من الأحداث القدرية ما كان له أن يستمر ويكتسب نوعا من الشرعية التاريخية لولا ما فعلته الشعوب وقد تواطأت مع لحظات ضعفها من أجل أن تتخلى عن مسؤوليتها في صنع مصيرها.

لقد استسلم المصريون لريفي كانت غاية أحلامه أن يكون ممثلا هو أنور السادات. أما مؤلف القصص العبقري معمر القذافي فقد سمح له الشعب الليبي بتدمير مملكتهم ليقيم على أنقاضها جماهيريته التي لم تكن سوى لعبة ورقية يمكن أن تُطوى في أي لحظة مثل حية ودرج.

دفاعا عن أنفسهم سيقول السوريون إن حافظ الأسد هو آخر انقلابييهم، كما سيزعم السودانيون أن عمر حسن البشير من صناعة حسن الترابي، غير أن العراقيين وقد أحبوا السيد النائب وهو صدام حسين بنسبة مئة بالمئة لا يمكنهم أن يلوموا سوى أنفسهم وقد أصبح الرجل رئيسا مطلق الصلاحيات. كان صدام حسين خيارا شعبيا بامتياز.

هل علينا أن نذكر هنا أن الرجل الذي صعد إلى السلطة كان يوما ما محط أنظار الشيوعيين، في حين نظر إليه البعثيون الذي ينتمي إليهم بريبة؟

هناك مَن يرغب في تزوير التاريخ بطريقة أخاذة، مستغلا حرمة المس بالشعوب. تلك الشعوب البريئة كما لو أنها مجموعة من الدمى التي يلعب بها الأطفال ويتخيّلون حياتهم من خلالها.

لقد تعلّمت أوروبا درسا قاسيا من تاريخها، فصارت تسخر من الأوقات التي كانت فيها الشعوب خاضعة لوهم البطل المنقذ وهو ما بدا جليا يوم انتفض طلاب باريس ليسقطوا شارل ديغول عام 1968 ويجبرونه على الذهاب إلى بيته وهو رمز تحرير فرنسا من الاحتلال النازي.

ما يجري في العالم العربي اليوم يؤكد أن شعوبنا لم تتعلم شيئا ممّا جرى لها. وما حنينها إلى عصور الاستبداد التي يُفترض أنها انقضت إلا واحد من أهم مظاهر عجزها عن العثور على بدائل تخرج من خلالها إلى الحياة.
فاروق يوسف
نقلا عن العرب