بغض النظر عن الطريقة والسبب، اللذين كانا وراء بدايات ظهور الشعر العربي، فإنه كان لاشك مرتبطاً ارتباطاً عميقاً بطبيعة حياة الإنسان العربي، وظروفه القاسية التي عاشها في جزيرته القاحلة.. وسواء ارتبط ظهور الشعر بالعمل الجماعي، أو بالطقس الديني، أو بمحاولة التأثير السحري كما يقول بروكلمان، فإن ذلك كله نتيجة طبيعية عرضية لحياته في المجتمع، وتأثره بها وتأثيره فيها. إلا أننا في هذا المقام علينا أن لا ننسى العامل النفسي الذاتي لتوفر دواعيه في مثل حياة العربي.
فحياة العربي القديم كما نتصورها اليوم، هي دعوة علنية للتأمل والتفكر والنظر في صحراء واسعة عريضة لا يقع البصر فيها على شئ سوى الامتداد غير المنتهي حتى الأفق الصافي الذي يشكل غطاء وسقفاً محكماً ليس فيه منفذ.وقد يكون ذلك سببا مهماً في طغيان الصيغة الجماعية على الصيغة الفردية في حياة العرب بما انعكس في كثير من نماذج وموضوعات الشعر القديم. وما نريد أن نؤكده هنا أن حياة العربي الجماعية هي ناتج تعويضي عن إحساسه بالوحشة والخوف في هذا السجن الوجودي الكبير المجدب. هذا فضلاً عن المظهر الأكثر أهمية في العامل النفسي، في كون الإبداع والعبقرية اللتين يمكن أن نصف بهما شعراءنا القدامى، هما لاشك عملان فرديان ذاتيان قبل كل شئ، تكمن وراءهما عوامل نفسية شخصية كما هو معروف.
ولكننا حينما نذكر هذا العامل الشخصي علينا أن لا ننسى مدى ارتباطه بالعوامل الاجتماعية، فهي مسببة له ( مرسلة )، كما إنها في الوقت نفسه (مسـتقبلة) لنتائجه. لهذا السبب وغيره ليس من المجدي إعادة وتكرار النقاش في وظيفة الشعر وما إذا كان ( للشعر ) أم ( للمجتمع )، لاسيما بعد أن أشبع هذا الموضوع بحثاً ودراسة ونقاشاً بما جعل الحديث فيه أشبه بحديث ( البيضة والدجاجة). وإن القضية الحقيقية في هذا كله ليست ما يقوله حاملو النظريات في أية حقبة من الزمن، بل ما تفعله القصائد نفسها. ويقول الدكتور زكي نجيب محمود: (( فليتغن الشاعر لنفسه أو لغيره، فهو في كلا الحالين، ينشد للناس أناشيد الحقائق الخالدة )).
ومع ذلك فقد يقع دارس هذه القضية في ورطة ( العزل ) والنظرة التجزيئية حينما يتشبع ذهن باحث بموضوع ما، فيقصر نظره على ما ركز ذهنه عليه، ويعشو عما سواه، ليجد فيما بعد أن ما نظر إليه هو الغاية القصوى، والسبب الوحيد الأوحد، متجاهلاً أن الوجود متكامل، لا يمكن أن يكون بأحسن مما هو عليه. فهل قولنا أن ( الشعر للمجتمع ) يناقض مقولة ( الشعر للشعر ) التي يرفضها كثير من النقاد والدارسين . وللإيجاز الشديد أقول: هل إن الخدمة الاجتماعية الرفيعة التي يقدمها الطبيب تناقض خدمته لنفسه على أصعدة شتى وتناقض خدمته للطب مهنة وعلماً؟ ألا يمكنه أن يحقق ذلك كله حينما يصف علاجاً لموجع، أو يسبر عضواً بمبضع؟ وتشبه المسألة لعبة يلعبها طفل، فهي تمتعه وتسليه، وفي الوقت عينه تبنيه جسماً وعقلاً من حيث لا يدرك، بما تُكسبه من خبرات ومعارف جديدة. وقولنا: ( الشعر ممتع ) يتضمن ضرورة أنه مفيد نافع. أليست المتعة مفيدة نافعة؟
وحقاً أن الشاعر تدفعه عوامل اجتماعية أو عوامل نفسية موروثة أو نفسية سببها المجتمع، إلا أنه في كل ذلك كما يؤكّد كثير من الباحثين يفترض مجتمعاً متلقياً قبل أن يبدأ بالكتابة أو أثناءها وبعد أن يتم قصيدته. ولو لم يحس بهذه الحاجة، ما اضطر إلى كتابتها أو حفظها أو إلقائها، ولاكتفى بمرورها في ذهنه فحسب، مستمتعاً بتجربته منكفئاً عليها.
والشاعر العربي القديم أولى بافتراض المتلقي لبساطته وبساطة مشاعره وبساطة ظروف حياته عامةً، مقابل الشاعر المعاصر، ولكون دوافعه اجتماعية محضة، ووظيفة شعره اجتماعية محضة أيضا.
فلسبقه فنون التعبير الأخرى، إذ أن (( الإطار الثقافي للحياة بدأ شعراً)) كان الشعر(( ضرورة حيوية بيولوجية)) كما يشير د. عز الدين إسماعيل. ولافتراض الشاعر متلقياً، ووجوده الواقعي الخارجي، ولانعدام غير الشعر، كان الشعر ((المكوّن الأوّل للثقافة العربية)).
[email protected]