في مقالتنا هذه تخصيص وشمول بالرؤية النقدية , ولكن الحديث بها سيكون عن البيئة الفاسدة بشكل خاص وهو نفسه الحديث عنالسياسي كأنموذج في الواقع والحياة , لإقتران ذاته البشرية بجوانب عديدة من البيئة , اولها اقترانها بالسلوك والأخلاقالجارية فيها , وهنا يقتضي ان نأخذ مثالآ بسيطآ ومؤلمآ عن ذلك , ففي بيئة سوق الخضار تجد جميع الباعة الذين تسميهم العرب ” ذئاب السوق ” وخاصة الخضارين يقومون بتنقيع اصابع الباميابالماء قبل عرضها للبيع على البسطات , وعندما تسألهم عن سبب ذلك , تجد الإجابة من الجميع واحدة وهي ان يجعلوا الباميا اكثر نضارة لجذب المشتري ,
اما الحقيقة فهي لزيادة الوزن على حساب العدد , والمثال الثاني هو ان هؤلاء الذئاب وعلى الدوام يضعون بالميزان أكياس التفاح او التين او الطماطة والبصل بمقدار يفوق عن الكيلو وعندما يزيد الثقل بالميزان , يبدأون بتفريغ الأكياس من التفاحة الكبيرة والتينة الجيدة والكبيرة وقريناتهن من الطماطة والبصل ويتركون الرديئة الفاسدةقابعة بالأكياس , والجميع يفعل هذه المفاسد والمحرمات ويعلمون بها انها سحت وحرام ولكن تلك هي شروط البيئة التي صنعتها الذات البشرية وميولها الى الشر والفساد منذ عقود وسنأتي على اسباب ذلك .
وارتباط الذات بالبيئة يتم اول الأمر من خلال إتمام عملية تذويتها بلغة معينة Internalization of language لجعلها ناطقة عندما تكون بجمل بلاغية ذات ضوابط نحوية مترابطة وفصيحة وذات معنى لتتشكل بها كينونة لغوية تكون بمثابة الجسر للتواصل بينها وبين الحياة والمجتمع . بهذا التذويت المتمثل بالكينونة اللغوية , يتشكل بناء الذات البشرية من الناحية النفسيةفضلآ عن قدرات تفاعل الجينات المنفردة بالسلوك مع البيئة التيبمجموعها تشكل الشخصية والميول البشري ليمتد جذوره , اي جذور البناء النفسي , الى الأعماق ,
إذ بهذا التفاعل وبشروط البيئة وكل قوانينها الإنسانية وتعاليمها الدينية والإجتماعية التي يعيش بها , تكشف الشخصية عن ميلها الى الأعمال الفاضلة أو الشريرة , ومن غير عامل اللغة لايمكن التعرّف على سلوك وافكار واخلاق ومشاعر الإنسان من ناحية , ولا على عمق المدى المعرفي الذي سعى اليه في حياته من ناحية اخرى . قيل عن الإمام علي بن ابي طالب ( ع ) انه قال : تكلم اقول لك من انت . نستدل من هذه المقولة ان التعرّف على الذات البشرية وعلى بنائها النفسي ورؤاها تجاه الحياة والمجتمع يتم من خلالالنطق باللغة فضلآ عن سلوك التعامل اليومي الذي يدفع المرء احيانآ الى البحث عما تنحاز اليه ذاته البشرية من الناحية البايولوجية ,
إذ تتشكل بالإستعداد الوراثي خاصية الإنتماء الى مايجذب الذات البشرية والميل سواء الى الرحمة او العنف او الإفتراس او الإبداع أو الإنغلاق . ولنا بهذا الصدد مثالآ عن جانب الإنتماء الى مايجذب الذات البشرية الى مبتغاها متمثلآ بالناقد المصريالكبير صبري حافظ صاحب العشرين كتابآ بالنقد كتبها باللغة العربية والأنكليزية , والجدير بالذكر انه كان قاصآ وناقدآ ادبيآ , ولكن عندما يرسل نتاجه الأدبي القصصي والنقدي الى الصحف يفاجأ ان قصصه تهمل , اما مقالاته النقدية فتنشر . بهذا الميل الفطري الذي تكوّن بفضل جيناته الوراثية التي صنعت برأسه إستعدادات قوية لاتعمل إلا عندما تتفاعل مع البيئة ,
وهذا هو الأمر البايولوجي المهم الذي دفعنا الى كتابة هذه المقالة والولوج الى جوهر الذات لدى السياسي بشكل خاص من ناحية , وهو الأمر الذي حفزنا اليه توجّه الكاتب نحو السموق في كتابة النقد الأدبي ليصنع من كيانه باحثآ استقصائيآ من ناحية اخرى . إذن عندما تكون إستعدادات الذات البشرية لدى السياسي تميل الى مهنة الهيمنة والإفتراس لحلفائه وليس الى مهنة إدارة العمل السياسي بشكل هاديء وبما يخدم الناس والمجتمع , وخاصة عندما يعمل في بيئة سياسية عراقية فاسدة بحسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية وتأكيد العديد من المسؤولين والسياسيين على انالفساد مستشرٍ في مختلف مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية والبرلمان والقضاء ,
وتتنوع اشكاله بين الإختلاسات للأموال العامة والوظائف الفضائية والتعيينات الوهمية مما شكل ذلك هدرآ بالموازنة العامة , فإن البيئة الفاسدة , حتمآ , ستجتذبه وتحتضنه ومن ثم تدفعه ليمارس تلك المهنة كما تفعل ذئاب السوق , وقد ظهرت اثر ذلك الإنجذاب للبيئة الفاسدة نماذج عديدة من السياسي المفترس , اي المندفع بالخوف او الطمع أو الرغبة الى السيطرة بدلآ من العقلانية والعدلفي معالجة الأمور , فيبيع حليف الأمس واليوم وزميل المنطقةوالقرية وخرائط البر والبحر الخاصة بالوطن ويقصي الكبير المتمرس والشريف المعروف بالقضاء وبالسياسة او بالأمن العسكري والإستراتيجي ويهدد آخرين بجوقة من الصبيان الذين توافقوا مع تكوينه الإدراكي ,
وجوقة من الذباب الإلكتروني المأجور كما تفعل الضباع بالغابة , وكأن الدولة اختفت عنها الرؤى السياسية ماجعلها تختزل ذاتها وقوانينها به لوحده من ناحية , وترفع عنه المحاسبة ليترك لغرائزه وسلوكه المريض الذي لا يعبّر إلا عن جذور استعداداته الشيطانية التي تعمل خارج قناعه السياسي مقتديآ إما بأفكار ميكافيللي المنحرفة عن السياقات الأخلاقية , فيتبع مرجعيته السياسية التي تحرّضه , ومعه جميع الحكام والسياسيين الىاتباع القوة والخديعة وفصل السياسة عن الأخلاق من ناحية اخرى , وإما لم يقرأ رواية حارس حقل الشوفان وتعلم من كاتبها جيروم ديفيد سالنجر وهو يقوم بمشرط السرد تشريح المجتمع الأمريكي المنافق في الخمسينيات ,
ان زيف القيم والسباق الى المال والنفاق في المظاهر الإجتماعية والوجع الجواني للذات الأمريكية , وشرعنة اللصوصية والقتل المجاني التي يريد ان يجرنا اليها , اصبح مرجعآ للشباب والمراهقين الأمريكان , ناهيك عن اعطائهم شعورآ بالحق في ابداء الشك والرفض والتمرد والهروب من القوالب التقليدية الحكومية وخاصة في سياساتها الخارجية مع العالم . والجدير بالذكر انالإنزلاق والجذب والتوجيه بالغرائز لايقتصر على الكتّاب والسياسيين فحسب , بل على الممثلين السينمائيين ورجال الأعمالكذلك ,
ففي السينما يمكن ان ينقاد الممثل بقوة الإستعدادات المهيمنةعلى سلوكه الذاتي الى العبث الجنسي الجاري في بيئة هوليوود مهما كانت فاعلية قناع التمثيل امام المجتمع , مثلما إنقاد الكاتب صبري حافظ بقوة استعدادات مخيَّلته التحليلية الى النقد , لأن سياق البيئة الصحفية كانت تبحث بإهتمام عن النقد اكثر من السرد فدفعته اليه ليكون ناقدآ مبدعآ . من هؤلاء الممثلين الذين انقادوا الى العبث الجنسي الممثل كيرك دوغلاس الذي يعد اسطورة هوليوود في فترة الخمسينيات والستينيات , فقد ذكر في سيرته الذاتية التي صدرت عام 1988 بعنوان ” ابن راغمان ” Ragman’s Son كيف عاش فقيرآ ومعدمآ مع شقيقاته الستة في كنف أب عدواني وسكير ,
وكيف تحوّل الى نجم هوليوود الأول في السينما بعد ان خاض فيالعديد من المهن المتيسرة إبان فترة الثلاثينيات ومنها مهنة بائعالحليب والصحف لتوفير الغذاء لعائلته , وقال عن نفسه : ولدت عدوانيآ واعتقد انني سأموت عدوانيآ , وقال ايضآ : هناك غضب شديد في داخلي اكبر مما هو في والدي , على الرغم من روح الفكاهة التي يمتلكها . من هنا يتبين ان كيرك دوغلاس عندما لجأ الى التمثيل كان يمتلك ذاتآ بشرية بإستعدادات عدوانية متغلبة على باقي الخصائص الأخلاقية , فإنجذب بها الى بيئة هوليوود الفاسدة ليبدأ بالإقصاء لعديد من اصدقائه في تلك البيئة ,
والعبث جنسيآ بالعديد من الممثلات ومنهن كانت نتالي وود احدى ضحاياه , فقد اغتصبها في صيف عام 1955 في فندق بلوس انجلوس اثناء تصويرها لفلم The searchers وهي في سن المراهقة , وكان يكبرها بعشرين عامآ , وظلت تعاني من الصدمة سنينآ طويلة خوفآ على مستقبلها الفني بحسب اعترافات اختها لانا وود المنشورة بكتابها Little sister , وكانت البيئة الفنية في هوليوود تتغاضى عن افعاله طمعآ بما تحققه افلامه من تهافت على شباك التذاكر واعتزازهم بمكانته الفنية ونجوميته بين النجوم , وهذا بالمقابل ما شجع انجذاب غرائز الممثل الى الإنزلاق والتوجه نحو ذلك النوع من العبث مانجم عن ذلك تناقض بين أفلامه الرصينة التي قدمتها هوليوود وبين مايفعله من افتراس جنسي لقريناته في كواليس هوليوود ,
فضلآ عما صنع من تهديد للمصداقية داخل استوديوهاتهوليوود , ولكن دوغلاس بإنجذابه الى بيئتها الفاسدة , قام بدق اسفين فساده واسس الى جانب مظلم فيها منذ عهود , علمآ لم تتخذ نتالي وود اي مسار قانوني ضده بحسب اعترافات شقيقتها لانا , لأن اللقاء الذي حدث فيه الإغتصاب بين النجمين كان بترتيب الأم لأسباب تتعلق بالشهرة والمجد , فضلآ عن كونها انجذبت هي الأخرى الى تلك البيئة الفاسدة ولكن من دون ارادتها . مما ورد آنفآ يذكرنا بفساد البيئة السياسة الذي كشفه ايلون ماسك قبل ايام في لوس انجلوس قبل وفاة المهندس والراعي لهذه البيئة بوقت طويل ,
وهو رجل الأعمال والملياردير جيفري ابيستين وتورط بها ساسة كبار كانوا يمارسون العبث الجنسي مع فتيات امريكيات قاصرات بحجة التدليك والمساج وخدمات الفندقة السياحية , ومن هؤلاء كان الرئيسالحالي ترامب . نستخلص مما قيل ومما قلناه , ان التغاضي والتبرير عما يجري في ساحات العمل الحكومي والشعبي من فساد وانعكاساته على الأوضاع الفردية هو الذي يصنع القضاء المسيس واللص والمحتال ومتعاطي المخدرات والعاهرات , فضلآ عنالسياسي المفترس الذي سيُذكر اسمه بالمجالس مقرونآ بالفضائح وإن كان بالظاهر مناضلآ ومجاهدآ ومبدعآ ,
اما السياسي الفاضل فهو لاشك نتاج صنعته الإستعدادات القوية المنبثقة من تفاعل الجينات الوراثية مع بيئته الفاضلة فسيظل علمآ من اعلام العراق . بهذه الرؤية بدأ المجتمع العراقي برفض التغاضي والتبرير المتكرر عن الفساد بشتى اشكاله , لإدراكه ان ذلك يكشف عن وجه يؤسس الى تأريخ سيء للعراق ويسقط عن مجده التليد اجزاء كبيرة منه , ويكشف مستقبلآ ان فهم الشعبالعراقي كان لايفرق بين الخطيئة والفضيلة , وهو الأسمى والأنبل والأكرم من ان يتغيّر وعيه الأخلاقي مهما احاطت به البيئات الطامعة والمجرمة أو صُنعت به يد المفترسين من السياسيين ساحاته الشعبية والسياسية الفاسدة , أوينكشف للأجيال اللاحقة بهذا الوجه القبيح والفهم الزائفين .