حقيقتان قبل الولوج إلى المقال :1- أن تسبق الآخرين بخطوة أو خطوات انتظر التهمة بالسفه أو الجنون، وهيئ كفنك فقد تقتل . فـ(غاليلو) مثلًا حين تحدث عن كروية الأرض اتهم بالجنون، وبعضهم كفره حتى وصل الأمر إلى فرض الإقامة الجبرية عليه حتى وفاته سنة (1642)، وفي عام (1983) أي بعد (300) سنة قدمت الكنيسة اعتذارًا لـ(غاليلو)، واليوم كل من ينفي كروية الأرض يصبح محل استهزاء وسخرية !!
2- الناس أربعة أصناف : أ/ فاسد في كل مراحل حياته، وهو شرٌّ مطلق .ب/ ابتدأ صالحًا ثم انحرف، وهذا شرٌّ أيضًا .ج/ ابتدأ فاسدًا ثم أصبح صالحًا، وهذا خيرٌ .د/ صالحٌ في كل مراحل حياته، وهذا خيرٌّ مطلق وهو أفضل الأربعة .
وبما أن الصنفين الثاني والثالث قد غيرا من منهجهما، فلا بد للناس أن تغير من الحكم عليهما أيضًا، فتنبذ الثاني بعد أن كانت تمدحه، وترحب بالثالث بعد أن كانت تقدحه، وذلك لا يعني النفاق، بل يعني الإنصاف بعينه، ويبقى الصنف الرابع لا يقارن بغيره .
بعد هذه الديباجة الموجزة أنفذ إلى موضوعي الرئيس، انطلاقًا من النقطتين أعلاه واسقاطهما على بعض الشخصيات العراقية، وكيفية تعامل الشعب معها .
فيما يخص النقطة الأولى : إن الإشكالات والنقد الذي يوجهه الكثيرون من أبناء الشعب العراقي لسماحة السيد مقتدى الصدر نابع من عدم فهم هذا الشخص، وسبقه لغيره من القيادات العراقية إلى فهم الأحداث وقراءة المستقبل (ليس علمًا بالغيب، بل قراءة واعية قد لاتخلو من التوفيق)، فالخطوة التي يتخذها الصدر اليوم يقف الجميع ضدها فيحاربونه ويكيلون ضده أنواع التهم، وبعد فترة يتبين صحة موقفه، ولكنه سبقهم إلى موقف آخر أيضًا يحاربونه عليه ليتبين لاحقًا إنه الحق، وهكذا دواليك، والأمثلة كثيرة لا مجال لذكرها مفصلًا، لذلك سأذكر ماتسعفني به ذاكرتي اجمالًا دون الإشارة إلى المواقف المضادة له، ليكون ذلك من مهمة القارئ اللبيب، فمن تلك المواقف موقفه من : ( الاحتلال، مجلس الحكم، الدستور، ضبط الحدود، الزراعة، حماية سامراء، القاعدة، السُنة، المالكي، الاتفاقية الأمنية، الولاية الثالثة، المليشيات الوقحة، الأزمة السورية، وأخيرها وليس آخرها موقفه من التدخل الروسي في العراق) فكل تلك المواقف عارضها الكثير ثم ثبت صحتها لاحقًا، وستثبت الأيام القادمة صحة مواقفه الحالية، فلماذا لا نحاول أن نثق به وفق تلك المعطيات ونحاول مواكبته ?يبقى أن أشير إلى ميزة من مميزات منهج الصدر في التعامل مع الآخرين (حكومات وأفراد)، وهي سياسة اليد المفتوحة واتاحة الفرصة لتغيير السلوك، وفي حال عدم الاستجابة تتحول تلك اليد من مفتوحة للسلم والسلام إلى مقبوضة لضرب من يثبت على نهجه العدائي للعراق، والأمثلة أيضًا كثيرة، منها موقفه من :(حارث الضاري، المالكي، العصائب وأخواتها، السعودية، إيران) . لذلك أتمنى أن يثق الشعب بهذا الرجل ولو لمرة، وخصوصًا في هذه الأيام، ولو من باب التجربة، فنحن جربنا غيره وضاعت سنين من أعمارنا، ولو بقينا عليهم ستضيع سنين أخرى، فلنجرب الرجل فإما أن يضيع سنيننا الضائعة على كل حال، أو ينتشلنا من واقعنا المرير إلى واقع ننعم فيه بالخير والسعادة، وليتعامل معه العقائديون والإسلاميون على أنه رجل دين، وليقبله المدنيون والعلمانيون على أنه رجل وطني بعد أن أثبت ذلك بما لا يدع مجالًا للشك .
أما النقطة الثانية، وبحسب التصنيف أعلاه، فيفترض أن الصنفين الأول والثاني يكونان مرفوضان من كل عاقل، فالأول واضح الشر، والثاني شر متلبس بأفعاله الخيرة الماضية،لذلك هو أخطر ونماذجه كثيرة جدًا في رجالات الحكم اليوم وهو إشكال وقع فيه الشعب العراقي، وراح يتغنى بحسنات الماضي على حساب كبائر الحاضر ، مثل المالكي الذي يفخر بمجرد توقيع ممكن أن يفعله أي أحد في قبال مجازر وتأجيج طائفي، وانهيار أمني واقتصادي، واحتلال ثلث مساحة العراق، التي ندفع اليوم خيرة شبابنا من أجل استردادها .
يبقى الصنفان الثالث والرابع، وهما مقبولان مع أفضلية للرابع ينبغي أن يخضع لها الجميع بما فيهم الصنف الثالث، فقد قال تعالى : (( أفَمَنْ يهدِي للحقِّ أحَقُّ أنْ يُـتَّبَعَ أمَّـن لا يَهِـدِّي إلّا أنْ يُـهدى فَمَا لَكُمْ كيف تحكمون ))، وهنا تمامًا محل الإشكال الجوهري على الشعب العراقي وعدم انصافه في هذا الباب، فالشعب العراقي نسيَ كل سيئات (هادي العامري/مثلًا) فقط لأنه تصدى لداعش في محاور معينة، وبدوافع لم تثبت وطنيتها بعد . وكذلك فعل مثل (قيس الخزعلي وغيره من قيادات المليشيات)، بل إن الشعب العراقي نسيَ كل مساوئ (الجعفري) فقط لأنه قال كلمتين في اجتماع بائس وهو موقف سارع حزب الجعفري وائتلافه للإعتذار عنه من مملكة الشر (كما يسمونها)، ولكن الشعب استقبله استقبال الفاتحين، وظن الرجل بنفسه ظن السوء، إذ حسب نفسه ماردًا خرج من قمقمه وهشّم الزجاجة، أو إلهًا أنزل عذابه على الكافرين، فتذكرت عادة رومانية قديمة تمنيت لو أن أحدهم فعلها للجعفري أمام أبواب مطار بغداد، أو للعامري وهو في مكتبه في خلفيات ساحات القتال، فقد كان مجلس الشيوخ الروماني ينصب مناديًا على مدخل روما لدى عودة أي قائد منتصر إلى المدينة ومعه بوق يردد فيه : (( تذكر أنك بشر … تذكر أنك بشر))، لكن أحدًا من العراقيين لم يفعل ذلك، بل فعلوا العكس حين منحوهم ومن يتبعهم صفة القداسة التي لا تليق إلا بالله وأوليائه .
هذا الشعب نفسه خالف الآية أعلاه حين فضل الصنف الثالث (في حال ثبوت دخول العامري والجعفري والخزعلي فيه، وهو ماأشك به، بل متيقن من ضده) فضلوا هؤلاء على من ابتدأ صالحًا واستمر على صلاحه رغم كل المغريات، ورغم كل العاديات، ورغم كل ما أتيح له من فرص الثراء الفاحش على حساب دينه ووطنه وشعبه وإرثه العائلي الفذ، نعم إرثٌ عائلي فذ، وهو عبء لا يتحمله الجميع، فكم من شخصٍ ورث مجدًا لم يحافظ عليه فنزل به إلى الحضيض، فانطبق عليه قول الشاعر :لئن فخرت بآباءٍ ذوي حَسَبٍ
صدقت، ولكن بئس ما خلفوا
ولكن الرجل حافظ على مجد آبائه، بل زاد عليه وأضاف إليه مفخرة على مفاخرهم، فالرجل واجه أعتى قوة عرفتها الإنسانية وهو بعدُ شاب في مقتبل العمر، وعاش في بحبوحة من الخوف وشظف العيش من أجل دينه ووطنه وشعبه . ثم وقف ضد ظلم الحاكم غير آبهٍ بانتمائه المذهبي، فالظالم لا يمثل إلا نفسه . وهاهم أتباعه لهم اليد الطولى في مواجهة دولة التكفير وإرهابها الأعمى . وها هو اليوم يرفع راية الإصلاح، متبرئًا من كل فاسد وإن انتمى إليه، وهاهو اليوم يواجه أشد المصاعب وأكثر المخاطر، فقد تكالب الجميع عليه، من إيران شرقًا إلى أمريكا غربًا، مرورًا بالشركاء في الدين والمذهب والوطن، وكذلك من أبناء المذهب في لبنان، فضلًا عن مملكة الشر التي زارها اليوم معتذرًا وفد من ائتلاف دولة القانون وحزب الدعوة بمعية سليم الجبوري، فهاهو اليوم يستصرخكم أمام كل هذه الضغوطات التي لو تعرض غيره لعشر معشارها لتخلى عن موقفه، ولكنه لازال صامدًا، إيمانًا بالخيرين من أنصاره ومن يسمع واعيته، وقبل ذلك متكلًا على الله، ومن يتكل على الله فهو حسبُه . إنه #مقتدى_الصدرفلا تفرطوا به، فتصبحوا على ما فرطتم به نادمين .