الشرف الوظيفي: المعنى الغائب في زمن الازدراء العام

الشرف الوظيفي: المعنى الغائب في زمن الازدراء العام

في اللغة، الشرف مشتق من الرفعة، ومنه شَرُف الشيء، أي علا وارتفع قدره. وفي منظومة القيم، هو أحد أركان الضمير الأخلاقي، وميزان الكرامة الفردية والجمعية. غير أنّ هذا المفهوم، الذي كان يومًا دُرّة المعاني في الثقافات والمجتمعات، تعرّض لاختزال مخلّ ومهين على أيدي سلطات سياسية مارست فنّ التجهيل، حتى بات “الشرف” يُختزل في أجساد النساء، بينما أُسقطت عنه كل معاني النزاهة، والاستقامة، والمسؤولية العامة.

ولعلّ الشرف الوظيفي هو أبرز ضحايا هذا التشويه المتعمّد.

إنّ الشرف الوظيفي ليس رتبة معنوية تُمنح، بل سلوك يُمارس، وموقف يُتّخذ، وضمير يُستحضر في غياب الرقيب. لا ينحصر في فئة دون أخرى، بل يشمل المعلّم كما يشمل القاضي، ويُطالب به الشرطي كما يُنتظر من الطبيب، وهو في جوهره تجلٍّ أخلاقي للوفاء بالعهد الاجتماعي، ولبذل الوظيفة في خدمة المجتمع لا في استغلاله.

في النظرية السلوكية النفسية، يُبنى السلوك الشريف على التوازن بين الأنا الداخلية والرقابة الذاتية. هو ناتج نضج أخلاقي، لا مجرد التزام بالقانون. فالقانون قد يُخالف، لكن الشرف، إذا استقرّ في وجدان الفرد، يمنعه من التورط حتى في غياب النصوص.

أما في الفقه الإسلامي، فقد اقترن العمل بالنية، والإتقان بالأمانة، فجاء قوله ﷺ: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه. والإتقان هنا ليس مهارة فحسب، بل صورة من صور الشرف: أن تؤدي الأمانة كأنك ترى الله، وأن تحترم الوظيفة كأنها عبادة.

لكن كيف يمكن للفرد أن يصون شرفه الوظيفي في ظلّ سلطة أفسدت معنى الشرف ذاته؟ حين تكون الوزارات بوابات للولاء الحزبي، والمؤسسات أسواقًا للبيع والشراء، والمناصب تتبدّل تبعًا لمزاج الفساد، يصبح الدفاع عن الشرف الوظيفي فعلاً بطوليًا، ومقامرةً وجودية.

لقد عملت السلطة السياسية في العراق المعاصر، عن سابق إصرار، على تدمير البنية الأخلاقية للوظيفة العامة. فرّغت الكفاءات، وصادرت المعايير، وروّجت للولاء على حساب النزاهة. وحين احتجّ الناس، لم تسمع سوى تهم التخوين والعمالة. وفي هذا السياق، لم يعد “الشريف” في الوظيفة يُكافأ، بل يُعاقب؛ يُهمّش، يُقصى، يُسحق بين فكّي منظومة لا تعترف إلا بالتابعين.

في المجتمعات التي تفقد المعنى، يغدو الشرف الوظيفي نكتة يتهامس بها الناس. في العيادات، يُتوقع من الطبيب أن يطلب الرشوة، ومن الموظف أن “يُكرّم”، ومن الشرطي أن “يغضّ الطرف”. هذا التواطؤ الشعبي لا يعفي السلطة، لكنه يشير إلى انهيار المنظومة القيمية بأكملها، حيث لم تعد الأمانة تُلهم، بل تُستغرب، وحيث يُهان الشريف لأنه مختلف، لا لأنه مخطئ.

والأخطر من ذلك، أن الثقافة المجتمعية باتت تُصفّق للذكي الذي “يدبّر حاله”، لا للنزيه الذي “يصبر على رزقه”. اختلطت الفطنة بالتحايل، والحيلة بالمكر، وذُبح الضمير على مذبحة الواقعية السياسية.

في الفكر العالمي، من ماكس فيبر إلى هانا أرندت، كانت الوظيفة العامة مرآة لأزمة الضمير الحديث. حذّر فيبر من “تحوّل البيروقراطي إلى عبد للإجراءات”، بينما وصفت أرندت تفاهة الشر في موظف لا يُفكر. هكذا يكون غياب الشرف الوظيفي، لا في الفساد الكبير وحده، بل في التفريط اليومي بالتفكير، بالمسؤولية، وبالواجب.

ولعلّ أعظم مقاومة للشطط السياسي ليست في الصراخ، بل في الصمت الشريف: في المعلم الذي يعلّم رغم ضآلة راتبه، في الموظف الذي لا يبيع توقيعه، في القاضي الذي لا يساوم على الحكم.

إنّ الشرف الوظيفي ليس رفاهًا فكريًا، بل شرطًا أخلاقيًا لاستمرار الدولة. وهو في العراق، ليس مجرد مطلب، بل صرخة وجود. في وطن استُبيحت فيه القيم، وصار الشرف يُعرّف سياسيًا لا أخلاقيًا، تصبح استعادة المعنى مهمة وطنية، ومواجهة الفساد التزامًا روحيًا لا إداريًا فقط.

إننا لا نحتاج إلى حملات دعائية عن “مكافحة الفساد”، بل إلى بعث جديد للضمير. إلى ثورة صامتة في دواخلنا، عنوانها: أن أكون شريفًا، ولو في حضرة الخيانة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات