18 نوفمبر، 2024 1:00 ص
Search
Close this search box.

الشاعر مهدي محمد علي : المنجز المغدور

الشاعر مهدي محمد علي : المنجز المغدور

عام 1978 ارتحل الشاعر ( مهدي محمد علي ) ، مع صديقه الشاعر” عبد الكريم كاصد”، قَسراً عن مدينتهما البصرة ، أولاً، ثم وطنهما بعد ذلك ، بسبب الليل الدموي الذي أطبق على العراق، والتعسف الذي طال القوى الوطنية -التقدمية، ومَنْ له علاقة قريبة أو حتى بعيدة بها ، من كل الشرائح الاجتماعية . وأكمل رحلته متخفياً ،عبر صحراء البادية الجنوبية العراقية، بدلالة بعض المهربين، ليصل إلى الكويت * ومنها و بجواز سفر منتحل ، ليطوف في المنافي الكثيرة والتي لم تنتهيَ حتى الآن، ثم يوثق رحلته مع المهربين:
” في أول هذا العام
 غادرتُ الوطن بزيِّ بدويّ
وعبرت صحاراه على ظهر بعير
في قافلة  من رمل ورياح 
ونياق وأدلاّ ء
ورجال تبحث عن رزق ما بعد الصحراء
**
سبعة أيام بلياليها
لم نعرف غير ذ َلول ودليل
 وسماء ورمال
وصحارى تصفر فيها الريح
…..
وطن يمتد الى أقصى الأرض وأقصى الروح
**
شربنا من مياه السيل
شاركنا الرواحل تمرها
والاهتزاز المرّ فوق ظهورها
والهمهماتِ إذا قطعنا سبخة زَل زَلَقاً
وانصتنا لها تجترّ
أمي تذكرني     
وأنا أتوسد رمل الصحراء
ملتحفاً برحال
تملأ سمعي أصوات كلاب الصحراء
تخطفني أنوار الدوريات
**
في آخر هذا العام حلمت:
أني ارحل نحو الوطن المغلوب
 بقطار تحت الأرض
يمر باحياء تحت الأرض ومحطات
تكتظ بأعداء وعيون جواسيس
**
لكني..
قابلت أخي في زاوية الشارع
عجلاً،أتلفت
ودعت أخي وأفقتُ
تذكرتُ
باني لم أر أمي في الحلم
**
فتمثلت الوجه المتغضِّنَ
والعينين الدامعتين
وتمثلت رفاقي حول مواقد ثلج يلتفون
 ويشقون خنادق في أعماق الأرض
وجسوراً تمتد لأهل الأرض
وأعواماً زاهرة تأتي!. ” عـدن
(1)
في المنفى أصدر ديوانه الأول (رحيل عام 78) عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي / دمشق /  ثم اصدر بعد ذلك المجاميع الشعرية التالية:سِر التفاحة/دار بابل/ دمشق/، شمعة في قاع النهر/وزارة الثقافة السورية/، خطى العين/ اتحاد الكتاب العرب / دمشق/ ، سماع منفرد/ دار المدى للثقافة والنشر/، ضوء الجذور/ وزارة الثقافة السورية/ ، قَطْرُ الشَّذى/ الهيئة العامة السورية للكتاب. ومع كل تلك الإصدارات الشعرية المتعاقبة، إلا انه بقي بعيداً عن التصنيف والتجييل الشعري العراقي ، كما لم يتم الاهتمام اللائق بما أصدره و تناول دواوينه الشعرية نقدياً ، وفحص تجربته الشعرية التي تنتمي في صميمها للشعر العراقي . وما كتب عنه وعنها لايتجاوز التعريف الصحفي فقط ، و أعتقد/دون جزم/ انه لم يرد له ولشعره، في الانطولوجيات الشعرية الكثيرة التي صدرت عن الشعر العراقي أو العربي، أي ذكر باستثناء اختيارات الشاعر “هاشم شفيق”،ضمن سلسة “كتاب في جريدة” الذي تصدره منظمة اليونسكو. بقي الشاعر “مهدي محمد علي” كاسم شعري، مع كل تلك المنجزات، مغلفاً ومحجوباً بالظلال، حتى أنه لم تتم دعوته إلى مرابد بعد السقوط ، إلا في المربد الثاني، وضمن أدباء المنافي الذي يحضرون على نفقتهم الخاصة**، وكأنه لا ينتسب للشعر العراقي أو البصرة بالذات ، ويقف خلف ذلك ، في الغالب،عوامل شتى، في مقدمتها الدوافع السياسية-الأيدلوجية ليس إلا، ومنها كذلك ما يخصه هو شخصياً. حول ذلك الإهمال الواضح والنأي المترافق بالصمت نقدياً عن منجزاته الشعرية، يقول الشاعر مهدي محمد علي في حوار أجراه معه الناقد (مقداد مسعود):”هذا من اختصاص النقاد ومن مهماتهم..ومن جانبي فأنني لا أبيح لنفسي أن احدد صفتي أو موضعي غير إنني استطيع أن اصف تجربتي الشعرية لأضيئها لا لكي أعطيها قيمة محددة أو درجة بعينها..ولقد وصفت نفسي مرة وأنا أتحدث عن تجربتي بأنني شجرة في حديقة عامة انتظر أن يلتفتَ أليَّ احد العابرين فينبه عابراً آخر، فاخر..حتى يقبل الناس نحوي”. كذلك أصدر، مهدي محمد علي/عن دار المدى- دمشق/ كتاباً بعنوان (البصرة .. جنة البستان)وقد استغرق منه ثلاث سنوات بدأ  فيها من عام 1982 حين تأكدت حالة النفي وحين استشرف المستقبل ورأى انه لن يعود إلى مدينته إلا بعد سنين طويلة ، وانه بالتأكيد لن يعود إلى بصرة الطفولة والصِبا لأنها بدأت في الواقع تتثلم . عن كتاب (البصرة.. جنة البستان) يذكر الشاعر “عبد الكريم كاصد” في حواره مع الكاتب”عبد القادر الجموسي”:” البصرة.. جنة البستان من أجمل الكتب التي صدرت في المنفى. قرأه الكثيرون: مهندسون، أطباء، عمال، طلاب، وتم تهريبه إلى العراق آنذاك، ولكنه للأسف لم يجد أي صدىً، في الجو الثقافي العراقي والعربي الصدئ”( الشاعر.. خارج النص/ ص 73).            
(2)
يستثمر الشاعر مهدي محمد علي في ديوانه(رحيل عام 78)،  ثنائية / الحضور – الغياب/ حضور الذاكرة – الماضي – وغيابها الآني، استدلال الأمكنة والأحداث والأشخاص بوضوح، محاورتهم ، طغيان ملامحهم ، الاحتفاظ بأدق الخصائص الواقعية للمشهد – الماضي القابع في الذاكرة – غياب الوطن في المنفى واختراق المنفى ذاته في حضور الوطن، الناس، الأحداث، الصلات اليومية ، المدن ، الشوارع، الساحات العامة وغبارها، حدائق البيوت، الأزقة، البساتين، الأنهر ، ألوان الستائر، المنزلية، تراب الغرف المقفلة، وحتى فسحة ضوء نافذة المطبخ. هذه الاستحضارات، محاولة للتشبث بالماضي الهارب، استنادا على قوة الذاكرة وحضورها العيني- المتفوق، المتوقد من خلال إقصاء المنفى ، والعمل على نفيه كوجود متحقق، ومُعطى دون اختيار شخصي، ثم العمل على تجاوز حضوره اليومي الطاغي المتجسد بالحاضر ذاته، الملموس المباشر. تستدعي الذاكرة المشاهد بطريقة ليست حلمية، بل متجاوزة ومنظمة من خلال اشتغال آليات الذاكرة التي تستدعي الوطن (الحاضر – الغائب) ، وكذلك الصديق ، الأم، صبية الجيران والسياج الذي يتسلقونه كأنهم نبات بشري، المكتبة، الأخت الكبرى، كلاب وقطط الحي، وتعود قصيدة “مهدي” لتحتفي بالبئر العذبة – بئر الطفولة :
” أتدلى فيه كما أتدلى في بئر
بحثاً عن صحيفة قديمة
أو تلبية لرغبة طفل
بحثا عن أجزاء لعبة محطمة
وأنا الآن أتدلى نحو وطني
كما أتدلى نحو بئر أليفة وموحشة ” عـدن
 تقبض ذاكرة المنفى على الماضي، لتستريح من أعباء الحاضر، و لتخترق  الراهن وتسعى لان تمسك بالأشياء – الغائبة – ولتؤنسن العلاقات الشخصية، التي تتمسك بها الذاكرة بقصدية لمغالبة الحاضر المشخص عبر المنفى. تُفعل الذاكرة حتى الجمادات، وتستدعي كلاب الجيران السائبة النابحة ليلا في مشهد فنتازي، بقصدية، لتجاوز وقائع الحياة اليومية للمنفي قسراً، فحضور الطفل المتدلي مرتبط بفضاء الذاكرة لخلق معادلة مع الحاضر (الموجع – الموحش) ، تتشبث الذاكرة بالأشياء الهاربة من الحاضر والساكنة هناك ، في الماضي البعيد، لكنها لا تتوقف عند الشخصي فقط:
“أما زالت غرفتي وحيدة
تتمرغ في سكون الوطن
الوطن الذي تلوى على رماد الحرب
الحرب التي تلتهم الذكريات ؟!” موسكـو
ثمة حضور يومي للمشاهد، مستقى من بساطة الحياة، ومصادفاتها الغريبة، المكتظة، فالأطفال بصخبهم وشقاواتهم والذين يمتنعون عن تسلق سياج البيت، بعد نَهرِهم، يحولون السياج إلى عازل عن الحياة ذاتها، بعد أن كانوا (النبات البشري المتسلق)، وتبادل الأدوار بين المانح والمتسكع والخاضع للمصادفة البحتة، وصَبيّة الحارس التي تراقب ستائر المنزل،والتي تجهل لماذا وكيف وأين توضع تلك الستائر؟!. وتتحول الصور اليومية إلى جزء من الفعل  الحدث المملوء بالغضب والمرارة ويبقى الأمل الذي يفعّل هذه الحيوات المنطوية المقتنعة بحياتها الهامشية التي تحولها اللغة والصور إلى نسيج يضج بالحركة والوجود العيني  الإنساني.
(3)
عام 1972 نشر الشاعر (مهدي محمد علي) قصيدة بعنوان (قصيدة منزلية) اعتبرت في حينه من أهم القصائد التي تناولت امرأة المنزل. ربة البيت، وعبودية عملها المنزلي اليومي، والتي ترى الغرفات والأبواب والشبابيك مشرعة والحديقة مهجورة للعصافير عند الضحى، وهي تنقل خطواتها في بيتها لتعيد ترتيبه ، الأواني ، الستائر ، الأحذية ، الأسرة، الكتب المدرسية المبعثرة ، ملابس النوم، كراسي الحديقة، وبعد دورتها تلك في (عبوديتها اليومية – المنزلية الدائمة) تستدعي ضحكاتهم وإهمالهم المتعمد المملوء بصخبهم الذي يثير الزوابع في بيتها المرتب و الساكن الآن، وتؤاخذهم بأسى مغلف بالحنان والحب غير المحدود والعتب:
“لو يدخلون المطابخ يوماً”
وتظل معلقةً بين حالتين أولهما هواجسها عند تأخر عودتهم، والأخرى فرحها ببيتها المتوازن حاليا ، الأنيق بعملها ، وبصماتها، ثم لتبدأ دورة يومية أخرى :
“يصطفق الباب
تملأ ضجتهم باحة البيت والغرفات
والعصافير تهتز فوق غصون الحديقة
 والبيت يرتج ”  البـصرة 
بعد سنوات يختبئ الشاعر” مهدي محمد علي” مُكرهاً في بغداد:
“حينما يهبط الليل تخرج
خمسون يوماً
لم ترَ شمس النهار
خمسون يوماً
وأنت قابع في غرفة عاديّات
في طابق علوي
*
خمسون يوماً
تتمطى في ظلام النهار
على حشد من الوسائد والأوراق!” بغداد
في مثل هذه الحالة التي عليها مهدي محمد علي يراقب ” امرأة المنزل “، ويكتب عنها ثانيةً قصيدة أخرى، لكنها هذه المرة (هوامش.. على قصيدة منزلية) عن امرأة المنزل ذاتها ، والتي تفقد الأبناء واحداً واحداً. وبعد انقطاع توازنها وسكونها القديم، وهي تخطو ملفوفة بالسواد ، وتنتقل بين المدن وبوابات المواقف والسجون والمقابر، باحثة عن الأعزاء و محاصرة بالأسئلة التي لا جواب لها، و تحاول أن تشم رائحة الأبناء الذين كبروا، و:
 “أوغلوا في الكلام”
 وتبعثروا هنا وهناك دون أدنى أمل بمعرفة مصائرهم . وعند عودتها ، يائسة قانطة وحيدة ذليلة ، إلى بيتها القديم ذاته، حيث حديقته خالية و مهجورة للعصافير ليلا ،وللغربان نهاراً:
“ترين البيت خالياً
بينما يمتلئ فراغه بالأناشيد المعادية
تأتي من مدرسة مجاورة
تأتي في كل وقت
لتمحو من على الجدران
أرقاما عزيزة ” بغـداد
(4)  
في قصيدة (صديق) ثمة مفارقة بين المعرفة وشقاء الوعي الحاد، ومرارة الأشياء اليومية، وإذ يستدل الصديق على منزل الألفة ، عبر دلالة الخارج ، العتبة الحجرية ، الشجيرة نحو اليمين والممر الضيق الصغير، متجاوزاً حشد (المخبرين) المرابطين قرب المنزل ، غير متوقف على ما هو عارض وسطحي، ولتتساوى مرارة القهوة والحياة-اليومية المتاحة،ومخاطرها عند ذلك الوقت، عبر فسحة التشبث بالمعرفة، وألق الصداقة والصفاء-المهددين بالتعسف والتغييب:
“قهوته مرة
وابتسامته مرة
وهو يجهد أن يستضيء الكتب
وكلام الصديق .” عـدن
ــــــــــــــــــــــــــ
* وثق الشاعر” عبد الكريم كاصد” تلك الرحلة الجحيمية والمرعبة، والتي استمرت ثمانية أيام ،  عبر صحراء البادية الجنوبية العراقية،في قصائد عدة، ومقابلات وحوارات صحافية ثقافية. وأهمها كتاب” الشاعر.. خارج النص”وهو حوار، غني ، موسوعي، ثقافي،فكري وحياتي. تجاوزت صفحاته الـ(220 )من القطع المتوسط .أجراه معه الكاتب والمترجم، والدبلوماسي المغربي، الأستاذ “عبد القادر الجموسي” وصدر عن/ دار المطبعة السريعة في القنيطرة/ المغرب/عام 2007.
** وللأمانة اذكر إنني تحدثت ،خلال مهرجان المربد الرابع، مع الشهيد” كامل شياع”،في البصرة، حول هذا الأمر، فذكر ليّ صداقته العميقة جداً مع مهدي واعتزازه به، وابدى أسفه الشديد لعدم دعوته ، ووعد بصفته مستشار وزارة الثقافة الأقدم، وعضو اللجنة العليا لمهرجان المربد، دعوته على نفقة المهرجان، أسوة ببعض الأدباء المغتربين في المرابد القادمة، لكنه لم يستطع لأن كاتم الصوت تمكن منه.

أحدث المقالات