مجموعة قصائد ( هدوء الفضة ) للشاعر الصديق مقداد مسعود لربما تأتي استكمالا لتجربة شعرية إجادة خلق أبعاد اللغة المبهمة شعريا و الإعتماد على ايقاعها الداخلي الكامن في نسيج مشهد صورة النص . و لكن هذا الأمر بقدر ما يغري الشاعر ، فأنه يجعل لغة قصيدته في بعض الحالات أقرب ما تكون الى الأنغلاق في المشهدية الشعرية التي هي بلا تضاريس ، بل ربما هي أقرب ما تكون الى دائرة اللغة السريالية منها الى لغة و صورة القصيدة القرائية .و هذا بدوره ما لاحظناه و بلا مشقة في مجموعة الشاعر الجديدة ( هدوء الفضة ) :
(هذا الليل :فضة في راحتي
لتكوني غزيرة الأجنحة ..
زبد الموج ..
أصوغه .. لقدمك اليمنى : خجلا
كبئر مدورة هذي اللحظة
من قعرها ، أراك عالية ..
عالية ببياضك ..
برحيقك عالية .)
هذه الرؤية الشعرية ( هذا الليل / فضة في راحتي ) هي بمثابة العربة التي باتت تجرها الوعول نحو آليات حلم مدائن التعرف بأصوات معطيات قصيدة ( هدوء الفضة ) أنها بلا شك مجموعة هواجس لا تحدث إلا في رؤيا أماد و أزمان حالات البياتي الشعرية التي تكثف الصور والرموز الخاصة في شكل شبكة رؤيوية يمتاز بها شعره خاصة . غير أننا مع قصيدة مقداد مسعود في زمن دال ( هدوء الفضة ) شاهدنا حداثة رموز شعرية ذاتية راح يخلقها الشاعر لنصه على دراية و صواب ، مما راح يجعل خطاب قصيدته في الوقت نفسه عبارة عن لغة و صورة لا تكشف عن عالمها الحقيقي و المثير بيسر:
(يانجمة .. من سلافة الأزهار ..
يدك شمسان
نبضك فضة
همستني دمعتي : لا تفضح عينيك
أنهم .. يتعقبون قلبك
بين الاصابع أنت الأبهام .. كيف لا تعتاظ الخواتم
و الكواتم )
أن مجال طموح قصيدة الشاعر ، كما يظهر ، يقترن بالحلم المؤسس عبر واقع حال مغاير ، و لدرجة وصول الأمر الى منطقة ( الشطح ) الذي هو غيبوبة النص عن عناصر رحيل الحلم فيما وراء دلالة حدوثية المعنى : ( يا نجمة .. من سلافة الأزهار / يدك شمسان / نبضك فضة ) و عندما يتحقق الحلم في النص يصبح التحقق القصدي في مركب الدال قوة حيوية يجوب بها الشاعر كل الأعماق حيث الحركة تظل داخلية و في حدود مخفية ، و لذلك صرنا نرى بأن الخطاب الشعري راح يتخذ لذاته صيغة و أفق ( الأنا / التحول في المخاطب / مدار الحادثة ) وفي سياق التحول ذاته تختفي الحدود بين ( حضور / غياب ) أو تختلف الحدود أيضا بين طاقة الأستقرار في صفة زمانية لتكتسب في الآن نفسه هوية التواصل الذاتي في تحقق قصدي عن طريق حركة السياق الأولى في دلالة ( هدوء الفضة ) بوصفها الخطوة الأولى في تشييد الصورة المدلولية في النص . و حين تكون الفكرة الأساسية في الفضاء الشعري هي ( الفضة / نبضك / دمعتي / عينيك / راحتي ) و ما يشتمل عليها من أفكار تدل في ذاتها على نوع من الحركة الذاتية المشخصة في ثنايا الحلم كمسارتصاعدي يبدأ من ( ألم تجعلك الفضة .. بضعة منها ) الى صعيد حركة دلالة
( أستيقظت .. ما زلت في تجاعيد
نومي .. مسكت حلمي من فضته .. سأرتبه .. أعيد
الجرة الى الماء )
كل هذه النواة تشير الى هيمنة عناصر الفضاء الحلمي و التوقعي في مقصديات التوليف عند الشاعر بين البعيد و القريب و الممكن و المحال في بناء صورة معنى أستثنائي ، حيث أخذت هذه الحالات تبتكر أشكالا جمالية خاصة قد لا يلاحظها المتلقي على الرغم من شيوع دوالها تحت آفاق ناظريه ، لأنها تعيد خلق المألوف و الغرائبي و الحلمي في شكل مصور ، على حين غرى تبدو جميع الصور الشعرية في مفاصل قصيدة الشاعر على هيئة تلازم خاص و تناسب فني مقصود إزاء خصيصة الخطاب العام في القصيدة . و القارىء لها يلاحظ من جهة ما أنها ألفت ثنائية
التعبير / الحلم ( فكرة + صورة + شفرة + شكل مضمر ) فالصورة في قصيدة الشاعر عبارة عن مكون مؤلف ، على الرغم من أنها تبدو من جهة أخرى كما لو أنها إجراءات متخيلة في صنيع تشكيل حلمية غارقة في ضجيج أنقاض السردية المهلهلة بأثمار شجرة المشاعرالخاصة من لدن الشاعر و عوالمه الواقعة في نقطة شواغل الذات :
(و أنا في وطني أراه بعيدا ؟
لكنه وطني ..
أفرك يدي بيدي
مثل أم تخفي مثالب أولادها عن أبيهم
أنه وطني لا أحب سواه ..
و أخجل ..
حين أراه منهوب
الفضة .. !)
أن فعل القراءة الأولية لدال ( الفضة ) في مجموعة الشاعر تقودنا نحو ثوابت جوهرية راهنة و محتملة مما يجعلنا نطرح التساؤل الآتي ، ما الباعث على قول الشاعرحول دال الفضة و هدوئها ؟ إذ هناك دليلا جوهريا يقع لربما قبل حلمية النص أي هناك و ما قبل السياقات الكلامية و الاشارية و إنفراد الإداء أوما قبل عروج الأفعال المضارعة أو قبل تأويل ثريا النص هناك في قصيدة الشاعر دلالات غائرة في عنونة هدوء الفضة و على مستوى الأسماء و الصفات و إيحاءات مواطن الأنتماء للقصيدة ذاتها ، على أمل الحضور الدلالي في وهج الفضة برغم غياب فضة
الثوابت في سطوح المداليل الراهنية في المؤشرات القولية .
( المعنى الشعري التكويني )
أن القارىء و المتأمل في قصائد مجموعة ( هدوء الفضة )حتما سوف يعاين اتجاه الكشف التكويني في دلالات و وحدات القصيدة العضوية ، إذ تنطلق بنية لحظة الإفصاح في أنتظاماتها الشعرية و النفسية و الجمالية و الأسلوبية من حالات رموز و تراكيب بنيات تكوينية متحركة و ساكنة ، لتدخل في مجال إعتبارات الحضور و الغياب و الضمور و الجلاء .
(من هذا المنعطف
تجلت الفضة
من دموع سواي
يومها ما تمنيتني منديلا
لتلك
العيون
ربما
أصغر من عمري الضئيل
: كانت مشاعري !!
لكن لونها غمر وجهي
و ما يزال !!)
أن ضمير المتكلم ليس في حدود هذه الدائرة المقطعية سوى ، ( قناع / هو ) أي هذا الحاضر الغائب و المسيطر على روح التكوين الصوري في دال و معنى ( فضة ) و لكن الشاعر أخذ
يستحضره بكل تماه و تباين فكرة التماثل و ليس التمثيل : (المنعطف + الفضة = هو = دليل = مدار محايث ) و نستطيع تأسيسا على هذا المخطط أن نقول أن معادل ( أنا ) نفهمه حينا على أنه
( عضوية المجاز ) وحرارة مخاطبة الغياب أو المسمى التكويني الداخلي ، حيث تتجلى لنا المواقف
و المشاهد عن أدوار دلالية تتصدر المكون و المضمون و الشكل . ( أطلق الأجنحة / صمتي يسألك وحدك/بين الاصابع / و الخواتم و الكواتم / الفضة و الحناء / أصوات الليل / ظلك كله فضة / خلف زجاج الصواغين /كأنها تعطيني من فضتها مفتاحا / هذا لك وحدك / فضة لا مثيل لها في المياه ) هكذا أخذت تتسع الدوائر الدلالية في منطقة و حالات أصوات القصائد الفضية في مجموعة مقداد مسعود ، كي تتجلى لنا من عبرها أشارات التوقع و المتوقع في مسعى نموذج الضمير المقابل للأنا ليشكل دورا بارزا في دوائره و مناورة معانيه
(يطل على الخص
الخص يطل على السدرة الحورية
من ذاك الشباك
تنزلق طفولتنا
فضية .)
من هنا يعيد الشاعر تسمية تضاريس الأشياء والحالات كي يجعلنا نتعرف على استرسالها المتراوح و المطروح في محاكاة لغة الذات الشعرية المنعكسة في لغة الأشياء . مع أننا ندرك بأن هناك فرقا جوهريا في المصدر و الإيحاء و مستوى الأداء التوصيفي ، لكن ضبط الأداء الحيوي في لغة خطاب الذات جاءنا بمنحى النمط المشابه لممارسات أناشيد و مؤثرات أعماق الموصوف الذاتي المتخرج بروح المشهد الإحيائي الفطري المؤول في مشهد الأشياء.
( تعليق القراءة )
هذه القراءة السريعة منا لبعض جوانب مجموعة ( هدوء الفضة ) ما هي إلا مغازلة شفيفة من جهتي لطاقة شعرية الشاعر مقداد مسعود . فهي مني مجرد قراءة زائر عابر ، تسعى الى أن تكون محايدة و بريئة ،حيث لا تخضع لأي نوع من أنواع أدب الأخوانيات و زلف أملاءات أبناء المدينة الواحدة ، ولا تخضع أيضا لضروب المجاملة و الإنحياز ودا و عداء .. و لكن كل ما أود قوله تحديدا في هذه الخاتمة من المقال ،هو أن تجربة الشاعر مقداد مسعود و في كافة أعماله الشعرية العديدة ، يكاد يختفي فعل و لغة التناسخ و النسخ و طرح ما هو سابق من كلام و صور أعماله الشعرية السابقة .. إذ أننا و نحن نقرأ قصائد مجموعته السابقة ( ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب ) أو مجموعته السابقة أيضا ( زهرة الرمان ) ، لم يلفت انتباهنا ثمة إعادة للكلام أو طرح
للصور الشعرية السابقة أو الأفكار بل أننا وجدنا أن لكل منجز جديد لهذا الشاعر له سماته و علاماته و مؤثراته الخاصة .
(الفضة تتماوج ..
تتسامى متماوجة ..
تشهق غيمة
ثم
هاهي : تتهاطل
فتيت قداح
ملء راحتي .)
و يمضي ( مقداد مسعود ) نحو خاتمة شعرية منفرجة ،إذ يكاد الشاعر من خلالها و في انشطاره الفضي ذلك ،استجماع الموقف الشعري وما يحمله نحو وجهة درامية أخذت تتطور في ذروة النظام الداخلي للقصيدة و في منطق حركتها المكثفة على مستوى العلامات النصية العفوية و كيفية ترميزها لما سبقها و بما لحقها من الصور الشعرية التي لا يملك إزاءها القارىء سوى أن ينساق وراء شجن سراديب هدوء الفضة و هي تؤول نحو جسد مخطوطة الدلالة .