مع سبق إصرار، أزعم أن من يخترق القصيدة العمودية بتاريخها التليد الحافل ومن يتمثلها ويتشربها عبر عصورها، لاخوفَ عندئذ عليه حين يطرق باب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ويتعدى الى النثر فيكون نثره عميق الغور كما الشعر، مادام النثر هو الأم الرؤوم للشعر أو صنوه المنظوم في عقد خَرَزاتُه الكلمات التي انتظمت على البحور الخليلية..وأعطت أُكُلها لفظاً ومعنى وموسيقى ووسعت مؤتلفة للعاطفة والخيال ..
كنت طالما أتابع وأتحرى ما يكتبه الشاعر حسين المحسن فأجده قليلاً، وأتابع قصائده الصادقة في أعياد الحزب الشيوعي، فأجده صوتاً مميزاً لا يختلط مع الأصوات في عمودياته يلقيها باحساس وبلغة تنم عن باع طويل باللغة والشعر.. كتبتُ مرة عنه عن قصيدة قصيرة عن الأم أبكتني حقاً.. ورغم قصرها فقد قالت الكثير عن أم حنون لم تلبس غير الأسود ظلت تترقبت عودة ابنها الشاعر الأسير الذي أفنى سنوات طويلة من زهرة شبابه في الأسر، لم يجد أنيساً أو سميراً له سوى ما يتوفر من كتب نزرة في اللغة والأدب والدين!
واليوم، أجدني أمام قصيدة قدّمها شاعرها بتقدمة تشي للقارىء أنها من الأخوانيات، فهي مهداة أو قل يخاطب فيها كاتب هذه السطور، ولكن ما أن يتوغل في تناياها وتضاريسها يدرك أنها تتعدى ذلك وتتجاوز الموروث الواسع من رسائل الشعراء مع بعضهم أو مع أصدقائهم التي تمتلىء بالعتاب أو المنادمة والتهاني لزواج الشاعر أو رزقه بمولود، أو تعزيته بفقد عزيز ناهيك عن السجال الشعري أو لوم الزمان أو المداعبات البريئة من مدح وذم …الخ. فلنستمع معا:
خذ صرة الذكريات معك..
وإلا
علامَ ستسند ظهرك؟
الخناجرِ
الطعناتِ
كأس المرارة..
نتجرعه رشفةً رشفةً مثل موت بطيء
الى خالد جواد شبيل
يجعل الشاعر الذكريات شيئيات ملفوفة بصُرّة وهو كناية بلاغية عميقة حين يجعل القلب هو الذاكرة مكوراً كما الصرة التي هي “أخف ما لمّ من زاد أخو سفرِ” وفق تعبير الجواهري، ويشير الشاعر الى ذكرياتنا لمكان أخضر عزيز تطوقه دجلة بحنو فتسقي البستاين والزرع من ضرع مدرار! فلم يعد المكان (الصويرة) كما كان محملا بالبرتقال والتين والعنب بل كثر الحسك والشوك كأنها خناجر بدل السنابل التي تجذب القبرات والقطا والدرّاج!
المساء يمر
وانت تحط على النافذةِ
لا وقت ظل لديك
أسبع دقائق تكفي للعشاء؟
كسرةِ خبزٍ
وزيتونةٍ
قدحٍ من نبيذ معتق
يعيدك قسراً لحي السراي
أو لزقاق يتلوّى كأفعى في النجف
الخطاب الشعري هامس مفعم، تلتحم فيه الذكريات، موزع المكان، كأنما موكل “بفضاء الله يذرعه ” وفق الشاعر ابن زريق، بين النجف مولد صديقه وبين الصويرة التي عاش بها أجمل سنوات الطفولة والصبا وفارقها ليأتيََ الزمن بسنوات عجاف من عام 63 وما تلتها في النجف ليغيب الماء والاخضرار حيث حدائق الكتب في أزقة النجف وحول مقام الإمام علي ع، حيث باعة الكتب ومجلدوها وسوق الجمعة لمزاد الكتب في الطمّة من سوق الحويش!
هذه الأجواء لا تفارق المسافر في حلّه وتَرحاله، وهو يلف العالم وتسقيه الكأس نبيذاً يهيج تلك الذكريات بين السراي في الصويرة والمشراق في النجف، ولله در الجواهري:
تعالتِ الذكواتُ البيضُ عن نجفٍ – عالِ كما ازدهت الألواحُ بالأُطُرِ
ومستدَقُ الحصى فيها وما جمعت – مَناخةُ النوقِ من بدوٍ ومن حضرِ
ثم العودة الى الصويرة الأجمل طبيعة والأبهج ذكريات:
قدح آخر سيقرع في رأسك الجرس المدرسي
أو يهز أراجيح عمو زكي
قدح ثالث سيقنعك انك لست هناك
ولست هنا
والزمان يسير بفرده دونك
دوننا
هكذا يا رفيقي أراك مثلي تراقب هذا المسلسل من نصف قرن
فجأةً تمدُ يداً من أطلس للخرائط
للشوارع التي كنت تمشي عليها قبل خمسين عاما
لي
للشوارع التي كنت تمشي عليها قبل خمسين عاما
أتدري؟
قد تهرأت مثل ملابسنا
يصاب أي مهاجر أو غائب عن البلد- كما الشاعر في أسره- بازدواجية في حياة ماقبل الحروب حيث السلام والدعة، وازدهار البساتين وجمال الطبيعة بوجود دجلة أو الفرات، وفرح الأطفال بالأعياد، وعمو زكي هو الفنان المبدع والمثّال زكي خلف، وهو خال الفنانين، نزار وسهيل الهنداوي، اشتهر بمباهجة في العيد في الصويرة.. وحالة العودة بعد الحروب الكارثية التي دمرت الزرع والضرع ولوثت الماء والهواء،، إن أصعب مايخافه المهاجر أن يعود ليكتشف أن معين ذكرياته الجميلة قد نضب ويكتشف أن حنينه هو لصور لم يعد لها وجود في الواقع وإنما في رأسه، وتلك هي المفاجأة الأكثر إيلاما، والناجمة عن إزدواج الذاكرة قبل وبعد الكوارث!! ويرى أن كثيرأ من الأصدقاء فارقوا الحياة وأكثرهم قد أحرقهم أتون الحروب العِوان، فلنتابع انثيالات الصور والسرد الوصفي:
أتدري
أننا لم نعد نأمن النوم فوق سطوح البيوت؟
ولم نعد نعرف العشق إلا لماما
واستبدل الناس أواني الزهور
بحشوة دبابة أو مدفعية
كل شيء هنا يا صديقي يشي بالفناء ألأكيد
الهواء الذي يتنفسه الناس
قد لوّثتْه خطبتا العيد والجمعة
والزمان توقّف
نعم يا صديقيَ قد توقف
في ادمغة الناس
وفي الكتب المدرسية
وفي ساعة الحائط المنزلية
………
إن الحروب لم تغير المدن والناس ولم تأت بكوارث البيئة وكوارث البشر..فلم يعد الماء ماء قابلً للشرب من الناس ومن الحيوانات، ولم يعد الهواء نقيا.. وما ترتب على ذلك من أمراض سرطانية أهلكت مئات الألوف من الضحايا وخاصة الأطفال بل غيّرت حتى من الطباع والعادات الاجتماعية، فلم يعد بوسع العراقيين النوم على السطوح وهي عادة قديمة منذ السومريين، بسبب الخوف من القائف وعدم نقاوة الهواء! كما يخبرنا الشاعر بأن المقتنيات أصبحت الأسلحة وقد رأيت بأم عيني أن الناس يقتنون الأسلحة ويعرضونها في الفيترينات (الجامخانات) ! بل وإن ذخائر الأسلحة وعبوات القذائف الفارغة أصبحت أصصاً للنباتات والزهور! نعم هناك ازدواج الذاكرة هو الشائع لدى الناس بين واقع لايني يسوء وبين زمن أصبح جميلاً في عيون الناس حتى وإن كان غير جميل وفقاً لقول الشاعر:
رب يومٍ بكيتُ منه ولمّا – صرتُ في غيره بكيت عليه!
روى لي أصدقاء أن الشاعر وليد جمعة ابن بغداد وعاشقها حين سافر من كوبنهاغن التي أوته سنين طوال الى بغداد، انهار أمام أصدقائه حين التقاهم في شارع الرشيد وانخرط في بكاء مرير ويصيح يايمة!!
يتسم الشاعر علي حسين المحسن بتكثيف السرد وتماسك الصورة وانتيالها وفق تسلسل محكم، وبلغة رشيقة سليمة تدل على اطلاع واسع على أساليب الفن الشعري وقدرة على توظيف مخزون الذاكرة واستحضارها بما يخدم القصدية الشعرية ويجعله متميزاً في سلاسة الانتقال وحسن السبك وثراء في المفردات وجمال اللفظ وجزالته..بعيدة عن التعقيد واصطناع الفخامة اللفظيةِ، فلغته منسابة بعفوية وبقيت محافظة على تماسكها وحسن بنائها..فنحن أمام شاعر متمكن من أدواته عميق الغور في أفكاره وجميل في لغته رغم الحزن الذي القى بوشاحه على القصيدة، الصدق في المشاعر أفضّله على التفاؤل المصطنع!
12آب/أغسطس 2019