23 ديسمبر، 2024 2:22 م

الشاعر عبد الخالق محمود وفجائع:..عازف آخر الليل

الشاعر عبد الخالق محمود وفجائع:..عازف آخر الليل

1

“عبد الخالق محمود..شاعر بصري آخر ، ينسجم والطريقة البصرية في الدأب الصامت على الكتابة الشعرية” هكذا قدمته مجلة (أسفار)بعددها المرقم(15) والصادر بتاريخ 15 آذار 1993(ص15-21 ) بمقال كتبه القاص الأستاذ محمد خضير بعنوان “الطبائع السبع لشاعر الظل” وأكد انه:” يأتي وقت يبيح  فيه شاعرُ الظّل دم قصائده باختياره، فتدور المطبعة لتسترجع زمان القصائد إلى اللحظة الراهنة التي تتنازع عندها طبيعة الإسرار مع رغبة الإعلان، ووجد البوح مع شوق الإباحة “. وأضاف:” قصائد (عبد الخالق محمود) تتدرج من البوح الواطئ إلى الصوت المرتج بالألوان والبروق والتقلبات ، وانه بذلك يضمن وصول الإشارة إلى كهف المعنى، و نشره لهذه القصائد وباختياره فإنه يضحي من شبَابته قرباناً لمجهوليته التي تكتمَ عليها بإباء وإيثار وزهد وحرمان وسيعود بسلام إلى مجهوليته ,غنائه الخافت،كهفه الصامت”. وقد عدَّ الأستاذ محمد خضير القصائد(السبع) ،التي نشرتها المجلة، للشاعر عبد الخالق محمود بمثابة “الذبائح” الموصولة بحبال تلك القصائد ، واقترح أسماء أخرى، مغايرة لها. ولد الشاعر عبد الخالق محمود في البصرة عام 1945 وتخرج في جامعتها العام67-68 كلية التربية – قسم اللغة العربية، ودَرَسه بعض الأساتذة في الجامعة منهم الشاعرة الراحلة نازك الملائكة ، و ا.د حسن البياتي الذي خصه برباعية في كتابه (وجوه بصرية / ص39 -40).:

“رحمة اللهِ على روحك، يا تلميذيَ الشهم النجيبْ !

 كنتَ فيهم خيرهم علماً وفناً وسلوكاً وفِطنْ،

شاعراً رقَّ حياءً، ساحراً كالعندليب…

قُطعتْ كفُّ المنايا والتوت ساق المحنْ!!”.

كما كتب عنه الأستاذ الكاتب إحسان وفيق السامرائي في كتابه ” لوحات من البصرة ..عبير التوابل والموانئ البعيدة ” ما يلي: ” لا صورة يمكن الاقتراب منها للموت كما اقترب عبد الخالق.. فمرثياته ، سوناتات موسيقى..قدرية..أفاض فيها هواجسه وخوفه على مَنْ يحب، وقد صدقت رحلة الخوف في أشعاره فكانت اكاليلاً وزنابق في بحيرات من العطر”(ص425 ). 

صدرت لـ”عبد الخالق محمود” مجموعته الشعرية الأولى عن/ اتحاد الأدباء في العراق/ عام 1994/ السلسة الشعرية(3) وبعنوان “مراثي الشمس..وقصائد أخرى ” ، وهي مختارات من قصائده المنجزة خلال الأعوام الممتدة من 1980- 1993. وله مجاميع شعرية مخطوطة أخرى. في نهاية التسعينيات ، أخذت صحة عبد الخالق بالتدهور. تناوب المرض، والحصار عليه ، وعندما كان ينتظر دنوّ لحظات الموت بقي مع عذابه وفجائعه التي أطبقت عليه، ومنها وفاة أمه التي يعيش معها وحيداً ، ومرضه الفتاك خلال تلك المرحلة القاسية والمريرة، لكنه ظلَ بعيداً عن التكسب والارتزاق والفساد الأخلاقي والروحي في مجتمع أثقلته إصابات باهظة بالترافق مع الانهيار القيمي الذي ميزه حينها. نأى(عبد الخالق) ، مع كل عذاباته وعوزه ، عن كل ما يمكن أن يلوثه في تلك المرحلة القاحلة، مؤمناً ومتمسكاً بحريته الشخصية بعيداً عن كل توجهات تقننها أو تكمن خلفها جهة تلفيقية أو سلطوية ما ، وظلَّ على سجيته ، هادئاً وأشدّ التصاقاً بميزاته الخاصة ومباهجه الحياتية اليومية – البصرية الأصيلة ، ومواصلاً ولعه المتميز بـ(المسرة والمرح والنكتة). فخلال جلساتنا ، ليلاً في حديقة اتحاد أدباء البصرة ، وأماكن غيرها ، كان راوياً و صانعُ (طرائف) من طراز فريد لا يبارى. غادر عبد الخالق عالمنا في أوائل نوفمبر عام 2001 ، وفي أربعينيته، التي أقامها اتحاد أدباء وكتاب البصرة، وساهم فيها عدد من أصدقائه ومنهم القاص محمد خضير الذي قال في كلمته المعنونة (في حانة الموت): إذا صَدَقَ تشبيه المتصوّفين للأحياء بالمسافرين الذين ينتظرون الرحيل (في حانة الموت)، فقد تصّْدق رؤى ندماء الحانة وأمانيهم وخرافاتهم، فيُدفن أبو محجن الثقفي ((في أصل كرمة تروّي عظامه بعد موتهِ عروقها))، ولا تصدق رؤيا شاعرنا (عبد الخالق محمود) وإن تمنّى ما تمنّاه أبو محجن. إذ دُفن عبد الخالق – تحت وجه اليقين- في أصل ((أثلة)) بمقبرة الحسن البصري ، خلعت حيّات (الزبير) جلودها في ثقوب رمالها حولاً بعد حول، منذ أن قال (لبيد) بيته الشهير:

                     ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ 

                      وكلّ نعـيمٍ لا محـالـةَ زائلُ .

 

2

مؤخراً صدرت مختارات شعرية لعبد الخالق محمود بعنوان “عازف آخر الليل”* قدم لها الناقد جميل الشبيبي مؤكداً فيها بان ” قصائده تحمل أعباء حياته الثقيلة التي كانت قصيرة (….) وإذا تأملنا عالمه الشعري سنجده عالماً محدوداً بتفاصيل تشبه حياته فهو لم يتطلع إلى عالم رحيب أو فضاءات يتقصى فيها خياله مدن اليوتوبيا(…) كان الشاعر عبد الخالق كياناً من الإحساس والمشاعر المشبوبة بحب الحياة والبشر ، وعدواً لكل مظاهر الاستلاب والغلو والعسف الذي يصيب الإنسان في كل مكان وزمان”(ص4 – 7 ). عبد الخالق محمود يملك توجهاً وتمكناً لغوياً واضحاً بحكم تخصصه باللغة العربية وتدريسها سنوات ، لكن لغته ليست لغة تراثية بل كانت لغة مرنة و دون حذلقة أو زوائد:

” اهدأْ، قليلاً ،

 ثُـمَّ فكّرْ:

ما الذي يعني اشتعال الروح ،

ما تعني الرؤى والمستحيلْ ؟.”

*

“ما الذي تعني المكابرةُ الغبيةُ،

ضاعَ عمرُكَ ،

وانتظارك صارَ وهماً،

صرتَ، بين الوهمِ والسهم:

القتيلْ”

*

“ويُطلُّ وجهٌ،

خلفَ نافذةٍ،

وقد أسميتُهُ حُبِّي

يُغادرُني، إليها، طائراً قلبي

ويُصبحُ بيتُها..

بيتي!”.

*

“حولي، يزهر النارنج والرمان،

واهمس:

الضحى يغرق في نافورة الألوان،

سلاما أيها البستان”.

في بعض قصائد عبد الخالق نلمس تأثراً واضحاً بشعر الشاعر “سعدي يوسف”. فكيف يستطع شاعر شاب ،حينها، و(بَصريّ) الولادة والنشأة والحياة والثقافة والرؤى ، الإفلات من شاعر، بَصري أولاً، وبمستوى وإمكانيات شاعر كبير مثل”سعدي يوسف”؟، ولم يكن عبد الخالق منفرداً في هذا بل شمل ذلك التأثر عدداً كبيراً من شعراء السبعينيات العراقيين والعرب كذلك. لكن ثمة اهتمام شديد بالتوجهات الشعرية الخاصة بعبد الخالق. قصائده تتميز بوضوح ودون تعقيد و بالموسيقى الخفية تارة والبارزة تارة أخرى. كما تأثر بشعر البريكان، الذي كان يُؤثر شخصه وشعره إلى درجة كبيرة، دون أن يتلامس ، مع عمق أفكاره الكونية الباهرة ورؤاه الفلسفية العميقة التي تميز شعر(البريكان). عبد الخالق محمود في كل توجهاته الشعرية، وعبر حواراتي المتواصلة معه عن شؤون حياتية- ثقافية شتى ومنها الشعر،  يرى ما يؤكده “ارشيبالد مكليش” في أن الفن عامة ، و القصائد بالذات : ” من صنع البشر، وان لم يستطع البشر أن يأخذوا على عاتقهم (فهمها وصناعتها)، فان هذا لا يدل على عظمتها وقوتها، بل على تفاهتها وضعفها”. كتب عبد الخالق عن أشياء واجهها في حياته اليومية المفجعة، ومنها قصائد عن بعض أصدقائه الذين افتقدهم ، بفعل الموت ، أو عندما اضطروا لمغادرة مدينته أولاً والعراق ثانياً ، هرباً من بطش النظام المنهار، ومنهم “مهدي محمد علي ومصطفى عبد الله” ، وآثر لأسباب معروفةٍ، أن لا ينشر ما كتبه عنهما في ذلك الزمان. فقصيدة (مساء) أهداها إلى (مهدي محمد علي) ، لكنه لم ينشرها، كما فعل ذلك مع قصيدته التي كتبها بعد وفاة مصطفى عبد الله في المغرب عام 1988 وأودعها ،أمانة لديَّ ، لأنشرها في الوقت المناسب ، ونشرتُها في مجلة ” الثقافة الجديدة” مع مقدمة قصيرة عنها، بعد سقوط النظام مباشرةً. أما قصيدته التي أهداها إلى (مهدي محمد علي)  فقد نُشرت مؤخراً في ” عازف آخر الليل..”:

مساء

كلُّ شيءٍ كما كانَ بالأمسْ :

لونُ السماءِ،

الستائرُ،

قلب المدينةِ ممتلئٌ بالضجيج،

المصابيحُ تنثر مثل الرمالْ

ضوءَها في الأزقّةِ،

هذا المساءَ،

تذكّرتُ وجهكَ ممتلئاً بالعذوبةِ والوجدِ،

يملؤُلنا بالعذوبةِ والوجدِ،

كـنّا، معاً،

في مساءٍ مضى،

حين غادرتَني،

 وشددتَ الرحالْ

أيُّها المرتدي وجهَهُ

أيُّها المرتدي راية الفقراءْ

زارني، في المساءْ

وجهُكَ المستفيضُ عذابا

زارنَي، في المساءْ

وجهك المرتدي وجهيَ المستفيض اكتئبا

ظلَّ يسألني،

ويُسائلني، وأنا صامتٌ،

ظلَّ منتظراً..

ظلَّ منتظراً..

ثم غابا. ” البصرة / نهاية – 1978 

 3

عمد “عبد الخالق” في شعره لاستخدام بعض الأساطير، كـ” كلكامش وانكيدو، هابيل وقابيل، وأبو الهول وموت الأمير و أوديس و آرغوس وطروادة ” وهو ينظر إلى الجوانب الفجائعية فيها فقط ، و هذا انعكاس لتصوراته عن الوجود الشخصي المأساوي للإنسان الأعزل في هذا العالم ، دون أن يتعامل معها بعمق الأفكار، والتي تعد الأساطير بمثابة المعنى في تطور الفكر الإنساني العابر لكل الأزمنة التي مرت بها البشرية، بغض النظر عن مكان نشؤها. كما انه لم يستفد من دلالاتها التاريخية والانثروبولوجية. و اعتمد الحوار في بعض قصائده ومنها” أوديس وعواء آرغوس وكلكامش وانكيدو و أحزان الممثل وهاملت يصحو والغجري والنجم وبيت في قرطبة وأغنية إلى قلبي وحانة بصرية وليلة شتوية ومساءات بصرية وحانة بصرية.. وغيرها  “.  الحالة الوجدانية في شعره عبد الخالق  واضحة ، و من علاماتها البارزة  (الحب) الإنساني، المفتقد واقعاً ،وهو الموضوع الأكثر أهمية في أغلب قصائده ، وكانت الغنائية (المترفة) غالبة على جل ما كتبه في هذا الجانب، وهو يسعى في ذلك إلى استنطاق آسى روحه المرهفة – العذبة، حتى يصبح تراكماً لا لبس فيه من خلال التعبير عن إحساسه بمسيرة حياته اليومية وفجائعها المتواصلة :

” لحظةً..

اعبر،

عيناي إلى النافذةْ

مشدودتانِ،

لحظةً..

لحظةً..

تأخذني الريح، فيبدو وجهُكِ المغسول بالأنداء

 كزهرةٍ في الماء” !.

*

“كــلّما ضيعتُ وجهي في زحام العابرين

جاءَني وجهُكِ،

 كالبستان مُخضراً،

 وكالفجرِ نديّاً بالحنين”.

*

“أنا وأنتِ، وحدَنا،

ليلتنا لا تُشبُه الليالْ.

أنا وأنتِ، وحدَنا،

ينطفئُ الشمعُ،

وقلبانا، معاً، مجمرةً،

وحُبُّنا اشتعالْ.

*

أنتِ معي، كالنجم تطلعينْ،

تُخلفينَ وردةً، في راحتي،

وقُبلةً حرّى على الجبين.

*

ما بيننا أغنيةُ لا تنتهي،

ما بيننا محضُ اشتياقٍ

ومساء كلّما جاءَ،

رجعنا، مرةً أخرى، صَبيّيْنِ،

كأنَّ العمرَ يمشي للوراءْ !.”

ثمة فتيات حملن أسماء مختصرة في بعض قصائده مثل (فتاة الحانة) و(فتاتان) و(قاف) و(ق.ي) و (داليدا) والقتيلة (م) و(إزهار) و(س) و(ع…) و أخريات مجهولات و دون أسماء، وبعيدات المنال:

“آهِ يا حبَّها

 أنت كالمستحيلْ

….

آهِ يا حبَّها،

أيّها الأبديُّ الجميلْ”.

*

“آهِ يا وجهها،

أنت يا زهرةَ الياسمينْ

آه يا وجهها

أنتَ كلُّ الحياة”

في كل قصائده لم يسعَ عبد الخالق إلى تجاوز قصيدة التفعيلة أو الخروج على ضوابطها. مجموعته الأولى “مراثي الشمس.. وقصائد أخرى” تأخر طويلاً في نشرها. لكنه نشر قصيدة (ادم) في مجلة (الأقلام) العراقية عام 1978 باسم “عبد الله محمود” واكتشف ذلك الشاعر” حسين عبد اللطيف”، دون أن يعلمه عبد الخالق بعائدية القصيدة له، وكان ذلك مثار استغراب عبد الخالق  الشديد ، و أقر ، بعد ذلك ، بأنها  قصيدته وانه خشي عدم نشرها فأرسلها بالاسم المذكور، كما كتب هذا الشاعر” حسين عبد اللطيف”، عند مشاركته في ملف أصدرته عنه ، عام 2006 ، جريدة ” الأخبار” الأسبوعية التي تصدرها شبكة الإعلام العراقية في البصرة وكان يرأس تحريرها الزميل “خالد السلطان” حينها، وساهم فيه معه: أستاذنا القاص الرائد محمود عبد الوهاب، والقاص محمد خضير، ، والكاتب جاسم العايف، والناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي، والناقد جبار النجدي، والصحفي عبد الحسين الغراوي. كان “عبد الخالق محمود” دائم التأني في ما يطرحه من شعر وبما يتضمنه من رؤى ، بسبب هواجسه، غير المبررة لنا، في التكتم على شعره الذي حدَّ هو بالذات ، من الإعلان عنه. من الملاحظات حول “عازف آخر الليل” إنه تم إعادة نشر قصائد سبق أن نُشرت في” مراثي الشمس..” ومنها “الفتى والمدينة” و “هاملت يصحو” ونشرت دون عنوان، فقط(1-8) ، وقصائد “حوار، وأغنية إلى قلبي وأحزان الممثل” وثمة تكرار لمقاطع من قصيدة “المسافر” وتكرار كذلك لمقاطع شعرية متعددة منشورة في بعض قصائد “مراثي الشمس..”  وأعيد نشرها متداخلة مع بعض قصائد أخر في “عازف آخر الليل”. مع أعوام انصرمت على رحيل عبد الخالق محمود، وعام آخر أكتمل، في السابع من كانون الأول عام 2012، دون أستاذنا محمود عبد الوهاب في البصرة وبيننا بالذات، من المناسب نشر قصيدة (عبد الخالق) التي كتبها عنه وأهداها له، قبل أكثر من ثلاثة عقود ونصف، ونُشرت مؤخراً ضمن “عازف آخر الليل..”

أغنية صباحية

                                         إلى محمود عبد الوهاب

… واطلَّ وجهُكَ،

كانتِ العرباتُ مسرعةً،

وكانَ الماءُ، في نافورةِ الساحهْ

 ما زالَ يغفو في الأنابيبِ،

استفاق الماءُ، في نافورةِ الساحهْ

ما زالَ يغفو في الأنابيبِ،

استفاقَ الماءُ

، حينَ عبرتَ ،

صارَ الماءُ ورداً،

صارت الساحهْ

خضراءَ.

وجهُكَ كان فجراً،

صارَ قلبي في الرصيفِ

حدائقاً للعاشقين،

ولقمةً  للجائعين،

وصار هذا الصبحُ أزهاراً،

وأطفالاً،

وأشجاراً ،

وصارَ العالمُ الساحهْ !”. البصرة / 1978

*”عازف آخر الليل..” / شعر عبد الخالق محمود / تقديم الناقد جميل الشبيبي/ طبع على نفقة الأستاذ سعود عبد العزيز البابطين/ دمشق-2012/ الغلاف: أمينة صلاح الدين