23 ديسمبر، 2024 6:44 ص

الشاعر سامي مهدي /لاترقى الى مكانتك كل الكلمات /كلمة وفاء تأخرت عن موعدها

الشاعر سامي مهدي /لاترقى الى مكانتك كل الكلمات /كلمة وفاء تأخرت عن موعدها

تلك هي الحياة ، تبقى حياة دنيا مهما زانت واشرقت للسواد الاعظم منا . يتكالب على خيراتها المتكالبون ، ويتشبث بها المتشبثون ، بما يرضي الله جلت قدرته ، وبما لا يرضيه جل وعلا ، ولا يتذكر الموت كثيرون منا ان لم يكن جلنا ، الا ساعة نرى الموت وقد خطف من بين ظهرانينا عزيزاً او صديقا او عَلماً او من كان غير ذلك .
ان الموت حقيقة فاجعة ، وقدر لا مهرب منه ، منذ ان وجدت الحياة ، ولانه كان احد بوابات الحياة الكبيرة ، فليكن دخولنا اليه من باب الرضا المطمئن الذي يهوِّن علينا ثقل المصيبة وفداحتها ، ولأن كانت الاقدار نهاية المطاف ، فأن ما يجعلنا نؤمن بها ، هو هذه الحياة المقيتة بكل ما تحمل من اعباء .
والحياة تنتهي حتما ، تلك حقيقة نعرفها جميعا ، والاعمار كما تعلمنا منذ كنا صغارا ، بيد الله . هذا أمر مفروغ منه وحقيقة نعرفها . وعليه ، فما عاد الحديث عن الذين يرحلون عنا ، يأخذ صفة التأبين أو الرثاء المتعارف عليه ولاسيما وهم كبار قلائل بيننا ظلوا منذ أن شاعت اسماؤهم الرنانة بأعمالهم الكبيرة .. لتؤكد اصالتهم في الطرح ، وغنى في الفكر واعتزازا بالتراث العراقي والعربي النبيل .. صار هؤلاء الكبار – والمرحوم سامي مهدي بالتأكيد احدهم – جزءا من تاريخ مشرف لنا .. كل واحد منهم من موقعه الذي هم فيه ، عِلماً وادباً ولغةً أو فناً .. ترتبط بالوطن وتنبع من اعماق روح المجتمع الذي هم منه .
لقد ترددت كثيرا في كتابة هذه السطور التي يسمونها ( رثاء ) والبعض ( شهادة) . فقد وقر في اعماق طبعي ، أن لا اتحدث عن ممن قضوا نحبهم . وقد ازداد الأمر صعوبة عندما الح ألم الفراق إلى من احب ، الا ان اكتب عنه ، لاسيما وموضوع ( الرثاء / الشهادة ) ، شاعر كبير معطاء ، وكاتب وطني / قومي صعب المراس ، بعيد المرمى ، وعميق المقاصد ..
ان الكتابة عن الشاعر المرحوم سامي مهدي ، ليست حين تفارقه الى الابد ، ضربا من مجاملة تقوم بها أو واجبا تؤديه ان كان ذا فضل جم عليك لا يمكن ان تنساه ، هذه المجاملة أو ذاك الواجب يتحولان الى مسؤولية حين يكون أثر من فارقت ، قد شملك بنوع من الرعاية تحولت بمرور الزمن الى صيغة بلورت شخصيتك واقامت بناءها وكيّفت سلوكها في الحياة والمجتمع .
ان أقسى لحظات العمر واوجعها ، حين يأتيك نبأ فقد عزيز عليك ، قريب منك ، وان تختزن في حياة هذا العزيز ذكريات عقد كامل من الكتابة بصحيفة كان رئس تحريرها .. فأنت تحس ان اشياء كثيرة منك قد ماتت وذوت ولم يعد لها الرواء والحيوية والمثول الدائم امامك . انها تطوى مع هذا العزيز ، وتظل مرارة هذا الفقدان تحز بالنفس وتؤلم القلب . والأكثر ايلاما من هذه كله ، ان تعيش تلك الذكريات ، لاعبر مرحلة من مراحل حياتك بل عبر مراحل ومراحل .. وخلال اكثر من ظرف وظرف .. وفجأة تموت كلها وتصبح مجرد سطور في صفحات العمر وخواطر تتداعى كالطيف .
ماذا تستعيد من حياة هذا الشاعر الكاتب المترجم ؟ انها جزء من حياتك ذاتها ، قرابة كذا سنوات بلا توقف من الكتابة في ظل رئاسة تحريره .
ان من عادة العلماء ان يرثوا العلماء ، ومن عادة المجمع اغلبنا نحن الكتاب ان نحيط تقليد الرثاء الادبي بالوفاء ، فنوفر له كل من موقعه المناسبات الملائمة ، من كتب وندوات وحلقات نقاشية تلقي ضوء التقييم والتقدير على من احلتهم تآليفهم وسيرتهم في الناس ، لأن يكونوا موضع رثاء واحتفاء ، اراحلون هم كانوا ام احياء .
وحين يكون المرثي في رثائنا هذا من جلة العلماء واكابرهم ، ومن اسانيد عصر عزت فيه قامات الكبار ، وحين يكون احد رؤرساء تحرير احدى اهم صحفنا .. وابائها الروحيين ، يكون للرثاء / الشهادة معنى شديد الخصوصية . فالرجل من طينة نادرة من الرجال في الفكر والسيرة الانسانية : – فإلى التواضع العالي الذي ينضح به سلوكه طبعا وجبلة ومنهجا ، والى العفة وذلاقة اللسان ، والبعد عن التكلف في العلاقات ، والصدق مع النفس والآخرين ، والأثرة والتضحية والعطاء الانساني الثر والزهد عن الدنيا والمنافع . شق الرجل سبيلا في البحث الادبي والشعري ، جمع فيه جمعا خلاقا بين اعتكاف العالم في محراب العلم والنصوص ، وتآليف نفوس جمهرة من المتابعين الشغوفين بالمعرفة والحدب على رحلتهم في شعاب البحث الاكاديمي واحاطتها بما وسعته خبرته من زاد ونصيحة وما تحصَّل له منها من درس وبوصلة . فاجتمع فيه لذلك ما قلمّا اجتمع لغيره من الاقران والاثواب – اخلاق الاديب العالم وخصال المربي ، وكان مدرسة وكان نهجا وكان عنوانا .
المرحوم سامي مهدي : – مدرسة في رجل ، وموسوعة في رجل ، هو الاستاذ عند من عرفوه ومن درسوا نتاجه ومن قرأوا اصول اللغة الشعرية وأبوابها ومفاتيحها .. في نصوصها .. ما ان يُعرف حتى يرفع الابهام والاستفهام عن سر الالق الذي للرجل في صناعته اللغوية والادبية وحتى الشعرية .. التي التزم المرحوم بفرائضها العلمية ، فما انتهكها او حاد عنها في ما كتب وألف لقرائه ومتابعيه نقلها ، وعلى الأخذ بمذهبها والوفاء لتقاليدها حث وحض . فأرسى بذلك مداميك طريقة في البحث الشعري يؤمل ان تجد لها اجيالا من الناهضين بأمر الاقتداء والصقل والتطوير .
نعم ..
رحل رائد البيان الشعري والنقد ، العراقي العربي الصميمي سامي مهدي ، فأصبح وجوده المادي في ذمة الخلود ، واذا نحن قرائه ومعارفه وموظفيه .. نحتفظ بذكراه اثرا وقيمة وتراثا وحقيقة نعتز بها في حياتنا وممارساتنا الكتابية البحثية ، فان ذلك لا يعفينا من ان نجعل من اثاره رمزا وكيانا لتاريخ ثقافتنا العراقية ، فعبر اكثر من كذا عقد ، ترك لنا استاذنا الفاضل سامي مهدي ، علامات مضيئة سواء في قصائده او ابحاثه او من خلال سلوكه الوظيفي …
يطول الحديث ان نحن حاولنا عرض معالم العمل الشعري الذي قدمه المرحوم للفكر اللغوي العراقي العربي ولحقول ابحاثها على نحو خاص . والمناسبة ليست كتابة بحث بل تقديم رثاء بمثابة شهادة و تكريما متواضعا رمزيا ، لكنه غني المضمون والدلالات .. اولها يفصح عن فعل اعتراف ووفاء من جمهرة متابعيه ، يجهرون به ويسجلون من خلاله ما للرجل وفكره عليهم من فضل كبير : – عطاء الشاعر ، واخلاق العصامي ، وسيرة المؤمن .. بالوطن والتقدم ..
ليس لنا حيال الموت من حيلة الا الصبر والايمان والاستسلام لقضاء الله وقدره . اننا نؤمن ان كل حي الى فناء ، وان كل نفس ذائقة الموليد خالد أحمدوت ، وان لكل انسان اجلاً محتوماً ، وقدراً مقدوراً ، فاذا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون .
رحم الله الفقيد ، رحمة واسعة ، وجزاه عن اللغة والادب خير ما يجزي به عباده المخلصين العاملين .
[email protected]