السينما لم تكن مجال اختصاصي يوماً ، لكنني كنتُ اتابع إنتاجها بشغف ، ومن مختلف المدارس العالمية ، حتى انني صرتُ في مرحلة ما اقرأ ما خلف المشهد السينمائي ، من ايدولوجيا موجهة ، وهي كثيرة ومركّزة ، حيث أضحت السينما الطريق الأقصر والأعمق للتأثير في العقل الجمعي وصناعة المجتمعات الجديدة .
وَقَدْ كنتُ اقرأ المنتج السينمائي في تلك الفترة بعين المرحلة المعرفية التي كنتُ اعيشها ، غير انّ التطور المعرفي جعلني أعيد القراءة كثيراً لأكتشف انّ لصناعة السينما ابعاداً كثيرة . ففيلم مثل ( الافاتار = Avatar ) الذي أنتجته هوليوود واحداً من أفلام الخيال العلمي ويتحدث عن المواجهة مع مخلوقات بدائية في كوكب اخر ، ويقوم فيه بعض العلماء من البشر بالتجسد – عبر استخدام العلم – بشكل تلك المخلوقات لدراستها ، كنتُ أحسبه فيلماً غاية إنتاجه تقتصر على اعادة تحديث التبريرات الغربية لاحتلال القارتين الامريكيتين وابادة الملايين من الشعوب الأصلية هناك ، اذ هذا ما يوحي به الفيلم للوهلة الاولى عند الربط بين المشهدين في العقل الباطن ، لكنّ اطلاعي على المعنى العربي لكلمة ( Avatar ) وهو ( تجسّد الآلهة ) جعلني أعيد قراءة أهداف المشهد الفيلمي كله ، لأدرك لاحقاً انّه دراما عكسية ( negative ) لمعتقد باطني تؤمن به النخبة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة ، ترى من خلاله انّ هناك مجموعة من المخلوقات العليا قادرة على اختراق الكيان الإنساني .
وهذا المعنى اعادت هوليوود إنتاجه من خلال عدة أفلام اخرى ، مثل فيلم ( The golden compass = البوصلة الذهبية ) الموجه للأطفال والمراهقين ، حيث يعيد ربط هذه العقول الصغيرة بعالم خفي تكون فيه مجموعة من المخلوقات اللامرئية ومجموعة اخرى من الكائنات ذات القدرات الخارقة صديقة للإنسان ومحبة له ، وتعمل على مساعدته ضد العدو الشرير الصارم الذي يمثّله ( الشرق ) ، وتحفّز ذهن هؤلاء الأطفال باتجاه الايمان بضرورة وجود ( القرين ) الخارق الرحيم كجزء من وجودهم .
وفي العادة لا يستطيع العقل الجمعي المادي السريع الحركة الالتفات الى هكذا تعقيدات اعتقادية خلف كواليس المنتج السينمائي ، خصوصاً حين يكون المنتج غزيراً كمّاً ونوعاً . ولا زلتُ اتذكر الرواية التي نقلها لي احدى أصدقائي الدارسين في روسيا كيف كانت احدى الزوجات الروسيات لأحد المقيمين العراقيين تمنع اطفالها من متابعة المنتج التلفزيوني الامريكي الموجّه للأطفال مبينة للزوج انّ هذه المنتجات مصممة لتخريب العقلية الانسانية ، في الوقت الذي لم يكن زوجها ملتفتاً لمثل هذه الأفكار . وفعلاً كان المنتج التلفزيوني الروسي بنكهته الشرقية اكثر هدوءاً وجمالية من غيره .
ثمّ انتبهت من خلال احدى مشاهد الحبّ لأحد الأفلام الإيرانية الى كمية الحُجُب السوداء التي وضعتها السينما العربية لا سيما المصرية بالتعاضد مع السينما الغربية عموماً على عيوننا باستخدام ( الجنس ) كرديف لمشهد ( الحبّ ) ، حيث أعاد لي الفيلم الإيراني ذكريات البراءة والعفة التي كنتُ شاهداً على وجودها في مجتمعي حين كنتُ طفلاً ، اذْ رأيتُ صورة اخرى لحبيبين عفيفين لطيفين ، لونهما الورد وعطرهما بخور عرس عربي .
قادني هذا الانتباه نحو السينما الإيرانية عموماً ، لاجدها من اجمل المدارس وأكثرها عطاءاً ، رائعة شكلاً ومضمونًا ، ليست عبثية ولا فوضوية ، كما انها غير متكلفة ، تتميز بالظهور الفطري لأبطالها ، وانّ ارض ايران كلها ( location ) للتصوير يعكس الثقافة الواقعية لذلك المجتمع ، كما انه بلذّة الفاكهة الخاصة بكل مدينة .
ولأنّ الجمهورية الاسلامية في ايران كانت قد دخلت عند بدايات تشكّلها حرباً ضروساً مع العراق – بغضّ النظر عن البعد السياسي وايّ بعد عنصري او فئوي اخر حيث لستُ في صدد مناقشة ذلك – فإنّ السينما الإيرانية عكست اجواء تلك الحرب الكبيرة والمنهكة من خلال مجموعة من الأفلام الأكثر من رائعة . وعند انتهاء الحرب بدأت هذه السينما بصناعة أفلام اخرى تحاول ترميم الشخصية الإيرانية والجرح المجتمعي ، أردفتها بمجموعة اخرى تعالج مشاكل الأجيال اللاحقة التي عانت نتائج الحرب السابقة ، كأبناء الشهداء والاسرى . ومن ذلك نلاحظ منهجية علمية لا يمكننا سوى احترام القائمين عليها .
ثمّ بدأت السينما الإيرانية معالجة درامية ذات فكرة مكثفة ولطيفة ومحبة في ذات الوقت للمشاكل الاجتماعية ، دون ان تتجاوز الواقع الصريح ، لكن دون إسفاف وابتذال ايضاً ، وعبر استخدام ارقى تنظيرات صناعة السينما العالمية ، حتى غدت ايران من المراكز الكبرى في هذا المجال ، ولعلّ جميع المراقبين كانوا يتوقعون انحداراً كمياً ونوعياً لهذا المنتج بسبب الخصوصية الاسلامية للمؤسسات الإيرانية وظاهرة الحجاب ، لكنّ الواقع والرؤية الموضوعية اثبتت انّ ذلك كله لم يكن عائقاً أبداً في وصول السينما الإيرانية الى الرتبة العالمية وبامتياز .
فمن فيلم ( معراجي ها = العارجون ) يمكننا الولوج الى الروح الوطنية المفعمة بالحب ، من خلال مجموعة من المشاهد التي جمعت بين الطرافة والعاطفة والمصداقية والموت ، في سياق لم نشعر معه انّ هذه المعاني تفترق عن بعضها . وفي فيلم ( إخراجي ها = المبعدون = المطرودون ) نشاهد صراحة الكاتب الإيراني في انتقاد الرؤية التي يتناول من خلالها المجتمع بعض افراده الذين يكون ظاهرهم السوء والأذى ، والذين تُثبت الأزمات انّ معدنهم قابل للصقل وإعادة التصنيع للافضل ، فيما يُقدّس ذات المجتمع أحياناً أفراداً اخرين ليس لهم الّا ظاهر كاذب من الصلاح يتبين بطلانه حين يُظهرون نفاقهم وحقيقتهم عند التجربة والشدة ، وهم فئة تكون عقبة امام صلاح الفئة الاولى بسبب تزمتها المرائي .
امّا فيلم ( الساعة الخامسة والعشرون ) فقد كان ذَا عبق انساني ، يعالج المشكلة التي يعانيها أبناء الشهداء في مراحلهم العمرية الخطيرة ، ضمن سياق درامي شفّاف ، يجعل المشاهد يعيش أحاسيس الأب والام معاً ، وهو من الأفلام التي تعيد النبض للقلوب المتحجرة عائلياً ايضا .
وفي مجال الأفلام القصيرة نجد فيلم ( الزهرة المتجمدة ) مفعماً بالأحاسيس التي تستدرّ دموعنا في لحظات من الاندماج والتواجد داخل المشهد من خلال البصر والبصيرة ، وتجعلنا تلك الطفلة الصغيرة ندرك قيمة الشهادة حين تنقلنا الى عالم مجرّد عن المادة وتملئه الروح العليا .
وإذا استعرضنا بعض أمثلة الأفلام الاجتماعية سنرى مشاهداً ابداعية تستحق الاحترام والإشادة ، لما حملته من هدفيَّة ونضوج وانسانية ، حيث تسلط الضوء على الزوايا التي تهملها العين المجتمعية حتى تتفاقم ومن ثم تنفجر . ففي فيلم مثل ( زيباي جدايى نادر إز سيمين = انفصال نادر عن سيمين ) نرى القيمة الكبرى للأسرة ، من خلال استعراض المشاكل التي يسببها الانهيار الاسري وانفصال الزوجين ، وهو ايضاً يجعل العين الإيرانية مسلطة على مشكلة الفقر والاسر المنكسرة اجتماعياً ، والفيلم دون أدنى شكّ يستحق ارقى الجوائز العالمية فنياً .
ومشكلة الفقر هذه استعرضها فيلم ( زقزقة العصافير ) بأجمل ما شاهدته عيني من سينما دقيقة ومعبّرة ، حيث نقلت مشاهده اصدق وقائع الواقع ، وعرّفتنا من خلال شخصية الأب على حاجات ورغبات واخطاء نعيشها جميعاً .
ويقترب من هذه الأفلام فيلم اخر هو ( ألوان الفردوس ) الذي يتناول حياة ذوي الاحتياجات الخاصة من فاقدي البصر ، ويستعرض تراجيديا الفقر المزمنة والأنانية الناشئة عن الحاجة العاطفية ، لكن في رحلة من الجمال الفائق من حيث الصورة والاداء تدمج الطبيعة الخلابة لإيران مع البساطة الاجمل لشعبها ، ولا يمكننا امام هذا الفيلم الّا القول انّ الأطفال الذين شاركوا فيه كانوا نجوماً كباراً يحتاج بعض النجوم العالميين لمرحلة تطويرية اذا أرادوا ان يصلوا الى مستواهم . وهذا الفيلم يجيئ ايضاً ضمن استعراض المؤسسة السينمائية الإيرانية لألوان الطيف القومي في تلك البلاد بنحو لا يخلّ بالوحدة الوطنية .
وفي الوقت الذي تقوم صناعة السينما الامريكية باستخدام علم النفس للسيطرة على العقول وإعادة تشكيلها بطريقة استعبادية وفوضوية ، نلاحظ انّ السينما الإيرانية استخدمت هذا المجال العلمي في الصناعة السينمائية بنحو يعالج الأمراض الاجتماعية ويعيد توجيه الذهنية العامة الى الفطرة الانسانية الاولى ونقاوة القلب . وهذا ما نجده في فيلم مثل ( مادر مادر = الام ) الذي يعالج ما يعانيه كبار السن وما يتسببون به من معاناة بطريقة مركّبة . وفيلم ( دل شكسته = كسير القلب ) الذي يحاول اعادة تشكيل خيوط النسيج الاجتماعي من خلال إيجاد المساحات المشتركة بين المجتمعين الديني والمادي ، وهو ايضاً يتناول مفردة ( الحب ) بثوبها النقي والعفيف ، كما انه يشرح دور الجامعة في اعادة هيكلة المجتمع وبنائه .
الخلاصة انّ السينما الإيرانية وبجدارة في قمة الهرم الانتاجي الإبداعي ، وهي تستحق المشاهدة بما للكلمة من معنى ، ولا يمكن جعل اللغة حاجزاً يمنعها من الانتشار ، كما انها اداة اصلاحية يحتاجها مجتمعنا العربي ، وبديل ناجح جداً يغني عن السينما الأجنبية الاخرى العنيفة او الغرائزية المبتذلة .
وبعيداً عن المنتج التاريخي الذي يعاني إشكالات معرفية وفئوية فإنّ العلامة الابرز والأشرف للسينما الإيرانية تمثّلت في تسابيح النور التي تبثُّها عن الوجود الالهي من خلال الكثير من نصوصها ومشاهدها ، لا سيما حين تدمج أحاسيس الحب البشرية بعواطفها مع مشاعر الوله بالمحبوب الاسمى الخالق ، فنعيش معها لحظات سامية ، ليست ثقيلة أبداً ، بل تأخذ بشغاف قلوبنا وتسير بها في عوالم النور ، وتعيدنا الى ساحة القدس دون ان تستلب ارادتنا . وفي هذا الإطار لا نكاد نستشعر بعداً طائفياً حين تنتقل بِنَا المشاهد السينمائية الإيرانية من الحضرة المعصومة لأمير المؤمنين علي الى الحضرة المعصومة للحسين او الزهراء ، وذلك انها تستخدم دروب الحب لتحقيق مثل هذا الانتقال ، حتى يغيب عن الذهن المسافة التاريخية او العقائدية التي يمكنها ان تفصل المتابع عن حضورهم وحضرتهم .
وهنا يمكنني القول انّ هذه السينما في المجمل عاشقة ، لازال القائمون عليها يعيشون الفطرة ، لا تختلف فيها روح الانسان عند الحرب او الحب . لذلك ارى انّ تتم حمايتها من مخاطر الاندماج بمراكز هذه الصناعة في العالم الذي لا يقيم لهذه المعاني وزناً ، مع إبقائها حرّة .