23 ديسمبر، 2024 2:54 ص

السيف والشراع جديد الروائي كاظم الصبر

السيف والشراع جديد الروائي كاظم الصبر

يشي عنوان العمل الجديد للروائي والمخرج السينمائي كاظم الصبر الموسوم “السيف والشراع”، بسطوة العنوان وايحاءاته العديدة، ما أن تقع عيناك عليه، حتى يقودك التأويل، الى اعتبارها رواية للأطفال، تتناول احداثا تاريخية بنفَسٍ سردي موجهٍ لفئة الصغار، هذا أولا، وثانيا أن العنوان دون أدنى عناء يستحضر في ذاكرتك، تناولا سرديا لأحداث تقع في البحر أو قريبة منه، تحيلك لحقبة القراصنة وما تعج بها من احداث، كنا ونحن صغار قد شاهدناها في السينما من بطولة كيرك دوغلاس، وهذا ما توضَحَ لنا ما أن ولجنا عتبات قراءتها منذ البداية.

تقع الرواية في 250 صفحة من الحجم المتوسط، وتتوزع على 20 فصلا، إذا تسنى لنا تسمية ترقيم العناوين بالفصول، تحمل عناوين مختلفة تبدأ من العنوان الأول: “وكر اللصوص” وتنتهي بعنوان “الباشا الصغير”. صدرت الرواية عن دار القلم للنشر والتوزيع في القنيطرة، المملكة المغربية، عام 2020.

تحتاج الرواية الى تفكير عميق ودربة واسعة من لدن المتلقي للدخول الى عوالمها المتشابكة من حيث تناولها لأحداث تاريخية تعج بالأمكنة والشخوص والتحولات ومحطات مهمة من تاريخ المنطقة التي تستهدفها الرواية بلغة سردية وحبكة ذكية في التناول، تنم عن قدرة الكاتب كاظم الصبر في تمكنه من اللغة الروائية ودرايته الواسعة ببواطن المفردة التي اختارها من خلال عمقه الواضح باللغة العربية، دون أن تترك لغة السرد مللا يدب لدى القارئ، وهذا الأمر كثيرا ما تتسم به اعمال روائية عربية مشهود لكتابها بالتمكن والقدرة الكبيرة في العمل الروائي، ولكنهم يغالون في السرد الذي يثير العياء لدى القارئ لمتابعة الأحداث، بخلاف الروائي الصبر الذي كان فاطنا لهذا النوع من الحكي الممل، فتحاشى الكثير من الاسفاف بالسرد الذي نجده لا موجب له في اعمال روائية عديدة، سيما في الرواية العربية.

إن العامل الأساسي في متعة القراءة لهذه الرواية، كون الكاتب أصلا هو مخرج سينمائي، فكان من التمكن أن يواشج بشكل ذكي وممتع بين الحكي في التناول بتكنيك سينمائي من خلال توظيفه للصورة التي اسقط عليها الكثير من الحركة بكثافة لغوية وسرد جمالي، ليحول الأحداث الى سلسلة من الصور السينمائية، تبعث على رغبة القراءة لدى المتلقي، وأنا منهم، ومواصلة القراءة حتى نهاية الحدث، تذكّرنا برواية الكاتبة مارغريت ميتشل الشهيرة “ذهب مع الريح”.

وهنا يمكننا كتأكيد لما ذهبنا اليه، ذكر شهادة السينمائي العراقي المعروف قاسم حول من خلال شهادته لهذا العمل الروائي، فيقول:

“أهداني الكاتب والسينمائي كاظم الصبر روايته السيف والشراع، كي أقرأها بعين سينمائية، فوجدت فيها سيناريو سينمائي أدبي متكامل. وهذا هو الشكل من الرواية السينمائية غير المعروفة في الأدب العربي”، وهذه شهادة موضوعية من مخرج سينمائي له رصيد كبير في الإخراج السينمائي.

من هنا تأتي أهمية رواية المبدع كاظم الصبر كونها عملا متفردا يندر وجود اعمال مماثلة لها، اذا ما قارنا، تحرك الصورة السينمائية بانتقالات ذكية تعكس قدرة الكاتب من شد القارئ لتفاصيل الحدث بعين سينمائية دقيقة الاقتناص لما يدور من انتقالات، تشي بمتعة تثير الاعجاب، هنا ينبغي أن اذكر عملا قد يقترب من هذه الرواية الشيقة، تلك هي رواية النبطي للكاتب المبدع والمفكر يوسف زيدان، بعوالمها ولغتها وتناولها للأحداث التاريخية لمراحل مهمة من تاريخنا العربي.

وللتأكيد على متعة القراءة التي تحققها هذه الرواية، نقتبس منها هذا المقطع:

“كانا يحلمان معا بعالمٍ أقل عسفا من العالم الذي رفعا فيه السيوف، أملا في كتابة صفحة جديدة ناصعة من صحائف التاريخ. لكن ذلك لم يكن بالأمر المستطاع حين أدركا أن تلك السيوف الصارمة التي رفعوها، والحمم التي تنفثها فوهات المدافع الملتهبة، التي كانت تقض مضاجع العدو…” وكر اللصوص ص 15

تحكي الرواية عن حالة الحصار الذي فرضته قوى معادية من جيوش (النصارى) ببواخرهم الحربية، على مدينة بحرية أسماها الكاتب ” وادي الرمان”، واسم المدينة يدفع على الحيرة، لمعرفة موقع هذه المدينة، وقبل دخولنا الى محرك البحث لمعرفة جغرافية المكان، ذهبنا بتفكيرنا، الى أن الكاتب يقصد، “مدينة سلا المغربية” التي يسمونها “مدينة القراصنة”، وعند البحث عنها وجدنا أنها وادي الرمان أو جرن رامون، بالعبرية.

إن رواية السيف والشراع هي عمل تاريخي بامتياز، بجهد روائي متميز، حين نحت الكاتب الصبر في زوايا ومحطات تاريخية، قد تكون منسية لدى العديد من المتابعين، ليستثمرها ويبث فيها راهن الحدث، ليخرج لنا بتوليفة تجمع بين التاريخ والخيال بحبكة روائية تشد القارئ ليتثبت من احداث مضت وينزع الى قراءتها بمتعة فائقة.

وهنا تكمن حبكة الرواية وتوظيفها للحدث، حين يظل القارئ مشدودا الى مسارات السرد، ليقترب من تلك المدينة العصية على الاحتلال من خلال صمود رجالها، ولكن وفي نفس الآن، سطوة الباشا وتفرده في اتخاذ القرار حتى وإن كانت المدينة مهددة بالسقوط، لتتعرض لأهوال حكم الغرباء.

تعجّ الرواية بالأسماء من كل المشارب والأطياف من ساكنة المدينة، بمواقف مختلفة ومغايرة بعضها للبعض الآخر، وتكون مواقف الشباب في مقدمة اتخاذ القرار للدفاع عن مدينتهم. إنها مجموعة دروس وعبر حدثت فيما مضى، لتحيينها على واقعنا الراهن، لتكون دروسا يسقطها الكاتب بطريقة تدعو الى التفكّر مليا في وقت يعاني منه الناس اليوم من أحداث قد تكون امضى من طبيعة احداث الرواية، وهكذا هي وظيفة المبدع السارد، بتحويل سلاحه الوحيد، الى وصايا من خلال إزاحة الغبار لماضٍ حريٍ بالدراسة والتأمل، سلاح معبأ بمدادٍ من التوظيف الفاطن، ليكون بديلا أو محايثا لأسلحة أخرى للعمل جنبا الى جنب، للخروج من المحن المعاشة، وهنا يأتي دور المثقف العضوي، كما تحدث عنه المفكر الإيطالي غرامشي، الدور الإيجابي في تحريك ماكنة التاريخ لصالح الراهن، ويزيح عن كاهله، الوظيفة الأساسية للمثقف الحامل لهموم الواقع المعاش.

أن من أصعب أنواع السرد، التناول التاريخي للأحداث، لأنها تتطلب أمانة تاريخية، ودربة وتمكّن، ليخرج لنا بثيمة تزاوج بين الابداع والسرد التاريخي، وهنا ينبغي أن نتذكّر الروائي الراحل، عبد الرحمن منيف من خلال منجزه الروائي الضخم، خماسيته “مدن الملح”، كتجربة متفردة في العمل الروائي العربي.

ان هكذا اعمال روائية تتطلب توفر بوصلة بتحكم دقيق ومسؤول بمساربها، بحيث أن المبدع ينزع الى الابتعاد عن الاسفاف والسرد الممل من خلال تسلسل الأحداث بشخوصها المتعددة، كهذا العمل، وأمكنتها، ومفاجأتها، للامساك بتلابيب الحدث، واقعا كان أو متخيلاً، لتتحول الرواية الى مجموعة من المنمنمات والزخارف المنحوتة بدقة، وأحيانا الأحجيات، لتجعل من الحكي توليفة شديدة الاتقان من الإبداع الذي يستحوذ على اهتمام القاريْ الفطن والمتابع الجيد للأعمال الروائية الرصينة.

هنا يمكنني القول المؤكد، أنني أمام مؤرخ وراصد للأحداث التاريخية، بعين السينمائي اللاقط للحدث، لتحويلها الى فضاءٍ من الطراوة والبلل الفكري المنعش، وهذا التوصيف ينطبق تماما على المبدع كاظم الصبر، كونه بالدرجة الأولى سينمائي، يحتكم على تجارب متميزة، سيما في الأعمال الوثائقية، وهنا ينبغي أن نتذكّر جهده المشترك بإخراج أفلام وثائقية، قام هو بإخراجها وبالاشتراك مع الشاعر، طيب الذكر، الراحل مصطفى عبد الله، الذي وضع سيناريوهات تلك الأفلام. دون أن نغفل العمل المشترك مع المخرج المتميز قاسم حول في اعمال مشتركة أنجزاها في بغداد.

تقصّدنا ذكر هذه المحطات في مسيرة المبدع كاظم الصبر، ليتبين القاريْ، أننا أمام قامة إبداعية، لم تأت من فراغ، بل صديق حميم للسينما والإخراج، ولصيق أمين للكتابة الروائية.

بظني أن الكاتب، حين شرع بكتابة هذه الرواية، لم تغب عن وعيه ووجدانه، حالات الانكسار والاحساس الممض، لما يجري في بلده العراق، من أحداث تدمي القلب، وهذا ما لاحظناه جليا في متون هذا العمل، من خلال جمعه بين التاريخي والاجتماعي، بحضور الأمكنة والأزمنة واستحضار الأحداث في ماضي الأزمان، واسقاطها على الواقع الراهن، كإنعاش للذاكرة الجمعية التي تستهويها العودة لما جرى في الماضي، برؤية سردية وبكثافة توظيف معجمي متمكن، يمزج بين الحدث المجرد والعين السينمائية، وهذا الجهد لا يأتي من فراغ، بل من دربة وتمكّن ووعي في ارفع حالاته، من حيث اقتناص الحدث، بحزنه ومسراته، ليكون شاخصا أمام قارئ، قد يغيّبه البحث في أحيان كثيرة، ويجعل من دوره ثانويا، ولكن الأمر يختلف تماما هنا، حين يجهد نفسه بمزج الواقع بالمتخيل، بحبكة سردية، لتحقيق المتعة والمعرفة، وتشخيص الأحداث بعين المتابع الذكي.

أن الأمانة التاريخية وسعي الكاتب للاقتراب من القارئ، وخلق حالة من المصالحة بينه وبين قارئه، لاحظناها بقوة في هذا العمل، من حيث استحكامات اللغة المعجمية، وسلاسة السرد، وجماليات المتخيل، كلها مميزات ممتعة رافقت القارئ.

إن مدينة مهددة بالغزو والاحتلال تتطلب توحيد الجهود، لإيجاد الحلول للأزمة المحدقة، لا التركيز على اسقاط التهم والمماحكات بين ساكنة المدينة وباشتها، لننقل هذا الحوار، لنتبين الأنانية وتغليب المصالح الشخصية على حساب خروج المدينة من محنتها:

ـ”يا قيرواني، أتريد أن أصدقك، وأنا أعرفك لصا وقرصانا عتيقا.

ـ أنا…! معاذ الله يا سيدي، لست سوى رجل طحنته الحياة، ولم أعد ذلك القرصان شاركك المغامرات، واقتسم معك الغنائم لينفقها على ملذاته، ثم انتهى به المطاف في آخر أيامه، أجيرا يزرع شتلات البصل، لم أعد قادرا على حبك الدسائس، كما عهدتني، أنا في منتهى العجز يا سيدي الباشا… (من يربح الجائزة ص39).

يقودنا هذا المقطع، وبشكل جلي، أن الأحداث تجري في مدينة القراصنة، وكما هو معروف لدي المغاربة، بأن هذه المدينة، هي مدينة القنيطرة، التي يطلق عليها بمدينة القراصنة.

ما لاحظناه في هذه الرواية، حضور المرأة بشكل قوي وتحديها للرجال، إنها السيدة ليانة التي اقتحمت مجلس الباشا وهو يجتمع بالرجال لإيجاد مخرج للتخلص من محنة الحصار وتهديد المدينة من لدن الغزاة “النصارى”، الذين ما توقفوا بقصف المدينة من أجل احتلالها، وسعيها الحثيث لاستنهاض همم الرجال.

ما أن دخلت المجلس، (همس بعضهم: “سيدة القلعة”. لقد هالهم غضبها، وتلك التي أظهرها الغضب فوق قسمات وجهها الممتلئ ترفا ونضارة… “المرأة ذات الخمار…”المرأة ذات الخمار…ص28”.

نلاحظ هنا وبشكل يبعث على المتعة، استحكامات اللغة الروائية وسلاسة التناول ومتعة السرد غير الممل، كما في اعمال عديدة، سيما التاريخية منها، ومما نلاحظه، لجوء المحاصرين الى الأدعية وطلب الرحمة من الله لتخليصهم من هذه المحنة، بأسلوب ينم عن السخرية كواقع حال في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حين تحاصرها المحن، وبدلا من تكريس الحلول العقلانية والتركيز عليها، يلجؤون الى الغيبيات، دون تشخيص الخلل الحقيقي في واقع الحدث ومسبباته وإيجاد الحلول له.

إن سعي الروائي كاظم الصبر الغور في مجريات الأحداث والتفاعل معها، بخلق شخوص كثر وحوارات تتوزع بين العقلاني والساذج، وتعدد الأمنة، واللجوء أحيانا الى الإرتجاعات، الفلاش باك، واسقاطه على واقع الأحداث، اضفى على السرد متعة كبيرة، وخلق رغبة متعاظمة لدى القارئ، لمتابعة الأحداث، بطريقة لا لبس فيها.

أن الكاتب الصبر وهو يبدع العمل، لا يغفل دربته في الإخراج السينمائي إنتاج صور متحركة، بتمكن يستحق التنويه.

ودون مغالاة يمكننا القول، أن الكاتب، فكّر مليا بتوظيف مفاهيم فلسفية، بتركيزه على أنساق فكرية في هذا العمل، مما جعل السرد يتصف بالتنوع من خلال النبش في الذاكرة الجمعية، لاستحضار ما مر من أحداث لإحياء فكرة الهوية، بأدوات إبداعية ومعرفية تطغى على امتداد مراحل القراءة، بتفكيك قصير الأمد وطويل النفَس.

يمكننا أن نقتطع هذا المقطع المعبر والذي يتوائم الى حد ما مع ما جرى في العراق، وكأن الأحداث تعيد نفسها شاخصة أما المتلقي.

ـ لكي تدعم سلطتك يا باشا، دون الاعتماد على سيفك ورجالك كثيرا، حاول أن تفتعل الكثير من الخلافات والمشاكل، وسينشغل الناس، ويختلفوا في كيفية حلها، ولن يتمكنوا. عندها ستقترح، أنت، حلولا لتلك الخلافات والمشاكل، وسيتنازل الجميع عن حقوقهم، وتتبخر اعتراضاتهم “حاكم الليل والنهار” ص199.

والسؤال هنا، اليست تلك المرحلة بتفاصيلها، هي ذات الأحداث التي جرت في العراق، إبان الاحتلال، ليستحوذ اللصوص على السلطة وإشاعة الفرقة، ليتحكموا بمصائر الناس، وما تلى ذلك من خراب أحرق الأخضر واليابس؟، فهل تقصّد الكاتب كاظم الصبر، ذات الحقبة المريرة التي ما زال العراقيون يعانونها حتى يومنا الراهن، أم أنها أتت من خلال سياق الأحداث في زمن أحداث الرواية؟

ـ عليه أن يستعد ليحبط كل الطموحات التي أخذت تحملها نفوس الحساد والمتأهبين الى قيادة المجلس، والاستحواذ على كل شيء… “الباشا الصغير ص243…

هل من شك في أن هذا التوصيف، ينطبق تماما على المعارك المحمومة للاستحواذ على الامتيازات في العراق، وإشاعة الفساد في كل مفاصل الدولة المفككة؟

بقصد أو دونه، وقع هذا التناص لما يجري في العراق، كون الكاتب كاظم الصدر يحمل بدواخله تفاصيل هموم وطنه الجريح.

أخيرا لا يسعنا إلا أن نحيي الروائي والفنان كاظم الصبر على هذا الجهد الإبداعي، متمنين له المزيد من العطاء، والسعي الجاد لخلق إضافات للمنجز الروائي العراقي، بعد أن بهرنا حقا بتمكنه في اقتناص احداث، نادرا ما تناولها مبدعون آخرون، في المكان والزمن المحددين.