منذ ربيع عام ٢٠٠٣، أصبحت المدينة القديمة في النجف الأشرف قِبلةَ الصحف والقنوات العالمية وهي تتقاطر على شارع الرسول بأقلامها و كاميراتها، تسترقُ السمعَ عن موقف سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله في أكثر الملفات سخونةً كنظام الحكم في العراق، وموقفه من الاحتلال الامريكي، و دستور العراق الجديد. لم أكنْ مبالغاً إذا قلنا، في تاريخ الشيعة، أن السيستاني كان أعلى المراجع ذكراً وطرحاً لأفكاره في الجامعات الأمريكية والمراكز البحثية في واشنطن العاصمة.
يعتبرُ الإصلاحيون السيستاني أمتداداً للتقليد الشيعي الديمقراطي الذي يعود تاريخه إلى الثورة الدستورية الفارسية (١٩٠٦ – ١٩١١)، التي استمرت حتى حركة الرئيس محمد خاتمي الإصلاحية (١٩٩٧ – ٢٠٠٥). مع ظهور فهم للنفوذ الهائل للسيستاني بين شريحة ضخمة من السكان العراقيين، بدأت النظريات حول “الرؤية السياسية” للمرجع الأعلى في الانتشار.
يذكر الاستاذ لأري دايموند: بحلول أوائل عام ٢٠٠٤، برز آية الله العظمى السيستاني بشكل مفاجئ باعتباره أهم رجل سياسي في عراق ما بعد الغزو، وقد أذهل هذا البروز مسؤولي البيت الأبيض، الذين فشلوا مرارا وتكرارا في إدراك نفوذه المتزايد في الأشهر التي تلت الغزو. ومع ظهوره، طُرِح السؤال الأكثر إلحاحاً، كيف سيكون شكل الحكم في العراق؟ إسلامي ثيوقراطي، أم ديمقراطي ليبرالي؟ (راجع كتاب “النصر الضائع: الاحتلال الأميركي والجهود الفاشلة لإحلال الديمقراطية في العراق”،Squandered Victory: The American Occupation and the Bungled Effort to Bring Democracy to Iraq، صفحة ٣٥ – ٥٤، لأري دايموند، جامعة ستانفورد)
تبنّى المرجع الأعلى الولاية العامة مع لزوم توفر شرطين:
١- الولاية العامة في الأمور العامة وليس في الأمور الشخصية، كالطلاق مثلاً، فلا يذهب السيستاني إلى حق الولي الفقيه في طلاق الزوجة من الزوج.
٢- قبول الناس لها
ومع إستحالة تحقق الشرط الثاني، تبنّى المرجع الأعلى نظرية “ولايةُ الأمةِ وسيادتُها على نفسِها” حتى يومنا هذا.
مرّت المرجعية العليا في النجف الأشرف بمراحل ثلاث:
أولاً؛ الفترة التي سبقت ٢٦ حزيران ٢٠٠٣، ظل السيستاني مخلصاً للنهج الأرثوذكسي، أن صح التعبير، التقليدي الغير سياسي المرتبط بأستاذه السيد الخوئي (قُدِس سره) من مدرسة “التهدئة”.
ثانياً؛ الفترة بين ٢٦ حزيران ٢٠٠٣ وحتى تشرين الثاني ٢٠٠٤، تبنّى السيستاني أسلوباً أكثر تفاعلاً مع الأحداث، بعد أن فشل السياسيون بالوقوف أمام المحتل، وتقديم خدمات للشعب العراقي، الأمر الذي دفع السيستاني لتحمّل أعباء التغيير السياسي في العراق، من وضع آلية لكتابة دستور و انتخابات برلمانية، مروراً بتأسيس دعائم دولة المواطنة في العراق.
ثالثاً؛ الفترة التي لحِقت تشرين الثاني ٢٠٠٤ وحتى يومنا هذا، حيث واجه السيستاني مشاكل داخلية كادت أن تعصُفَ بالبلد و تقضي على العملية السياسية برمّتها، من صراع السياسيين على السلطة، مروراً بالفتنة الطائفية و الارهاب الذي ضرب العراق، والتي تحتاج إلى بحث خاص بها.
في المرحلة الأولى، دخلت فئةٌ من الشعب العراقي في غيبوبة شرعية و أخلاقية، حيث تمت سرقة ممتلكات الدولة، و استُبيحت المتاحف، و أستُحوذ على المعامل والمصانع الحكومية، بطريقةٍ بعيدةٍ على القيم الأجتماعية للشعب العراقي، بحجة مجهولة المالك. لم يتوانَ السيستاني بإدانة السرقات، وأفتى بوجوب أرجاع ممتلكات الدولة إلى الحسينيات والمساجد ليتم فيما بعد إرجاعها إلى مؤسسات الدولة.
بدأ النقاش يدور في الجامعات الامريكية عن موقف السيستاني بحرمة السرقات، مما أسّس في تلك الجامعات “النظرية السيستانية” التي تمثل تطوراً نوعياً تجاوزت العلاقة الثانية بين المرجع والمقلِّد لتشمل “النظام العام”.
في الوقت الذي يعتبر بعض المجتهدين بجواز الاستحواذ على أملاك الدولة بحجة مجهول المالك كحكم أولي، سماحةُ المرجع يرى أن الحكم الثانوي “يقيّد” الحكم الأولي. على سبيل المثال، قطعة أرضٍ تملكها الدولة، تُعتبر مجهولة المالك، فيجوز امتلاكها، لكن يرى المرجع بأن هذا التملّك سيترتب عليه مفسدةٌ وخلل في النظام العام، فيُفتي بحرمة امتلاكها.
أصبح مفهوم الدولة الآن معترفاً به بوضوح باعتباره جزءاً صريحاً من “النظام العام” الذي يدافع عنه السيستاني، حتى مع ضبابية أن “الطابع الإسلامي” للحكومة العراقية لم يكن آمناً بأي حال من الأحوال في تلك المرحلة.
حتى وصلنا إلى المرحلة الثانية، مرحلة فراغ السلطة، مع انهيار كامل لمؤسسات الدولة. لقد كان السيستاني، بزي رجل الدين، قد شكل صدمة و مفاجأة لصانعي القرار في البيت الابيض ودول العالم، ليكون في طليعة السياسات التقدمية في العراق.
كانت هذه المرحلة هي الأخطر في عراقِنا الحديث التي اتسمت بمواجهة المرجع الأعلى مع قوات الاحتلال الامريكية، حيث واجه السيستاني الفكر العلماني الذي خطط له الرئيس الأمريكي، بوش الأبن، كنظام بديل عن النظام الصدّامي الشمولي. ما كشفته النظرية السيستانية، في هذه المرحلة، هو كيف يمكن لشبكة يقودها رجال الدين التوفيق بين مجالات الدين والسياسة بطرق تبدو في الغالب متوافقة ومتكاملة.
كلما حدثت منعطفات سياسية في بغداد، تتجه الأنظار إلى النجف بحثاً عن “الإجابة” أو “المبادرة” من السيستاني. يُنظَر إلى المرجع الأعلى باعتباره سياسياً عالماً بفن السياسة؛ فهو يصمم بعناية بالونات الاختبار السياسية الخاصة به قبل أن يطلقها عالياً في سماء النجف، ويراقب مساراتها الدقيقة من أجل تعظيم تأثير خطته التالية.
تدّعي الاستاذة كارين أرمسترونج أن النظام الجديد في العراق سوف يتميز بـ “العلمانية الشيعية التقليدية” والتي نشأت تاريخياً لأن “الشيعة خصخصوا الإيمان، مقتنعين بأنه من المستحيل دمج الضرورات الدينية مع عالم السياسة الكئيب الذي بدا معارضاً له بشدة”. (راجع مقال “الإيمان والحرية”، Faith and freedom، للأستاذة كارين أرمسترونج، صحيفة الغارديان البريطانية، ٧ آيار ٢٠٠٣)
لكنها لم تتصفح أوراق النظرية السيستانية بعمق. بدأ السيستاني يحاور المجتمع الدولي ومجلس الأمن على وجه التحديد، كما طالب الولايات المتحدة على إعادة النظر في سياساتها في العراق. أدرك المرجع ان اقتصاره على الجوانب العبادية والتقليد قد انتهى بعد ٢٠٠٣، تبنّى آليةً جديدةً في مواجهة الأحداث، تجاوز المنهج التقليد من أعطاء الفتيا والبيانات إلى رسم خطط النظام السياسي و تأسيس دولة دستورية. في غضون أشهر قليلة نجح في تحويل منزله في النجف إلى أهم مرفأ في البلاد يقصده سياسيو العالم. هذا على مستوى الخارج العراقي.
أما على مستوى الداخل، فقد تغير كل شيئ بعد ٢٦ حزيران ٢٠٠٣. دخل السيستاني المسرح السياسي في العراق، و في خروج مذهل من زقاقه الضيق في النجف، تصرّف المرجع فجأة وكأنه رجل دولة متمرّس، يرسم الخطوط العريضة لادارة البلد؛ دعا إلى إجراء انتخابات ديمقراطية ومشاركة المواطنين بكثافة مما أدى إلى إضفاء الطابع المؤسسي على شرعية الدولة العراقية. كما عزز الدور النشط للمؤسسة الدينية في الجمعيات المدنية ومنظمات الدولة من أجل حماية المجتمع المدني النابض بالحياة ضد احتمال عودة القوى الاستبدادية أثناء الانتقال إلى الديمقراطية.
كانت فتوى السادس والعشرين من حزيران ٢٠٠٣، الحدث السيستاني الأكبر في السياسة بشكل درامي، قصيرة وبسيطة في إجابة لسؤال: “أعلنت القوات المحتلة عن نيتها في إنشاء مجلس لكتابة الدستور العراقي الجديد، وأنها سوف تعين أعضاءه من خلال عملية تشاور مع القوى السياسية والاجتماعية في البلاد قبل طرحه للاستفتاء”. كان جواب المرجع: “إن هذه السلطات لا تملك تفويضاً بتعيين أعضاء الجمعية المكلفة بكتابة الدستور”. لم يكتفِ بهذا القدر، بل مضى يقدم بديل في إجراء مثالي حيث قال: انتخابات عامة يصوت فيها كل عراقي لاختيار ممثلين للجمعية التأسيسية، ثم يلي ذلك استفتاء عام على الدستور المقترح، وبذلك أوضح أنه لم يدخل إلى مجال العلوم السياسية فحسب، بل إنه كان في الواقع يرسم الضرورات السياسية لأتباعه. (راجع بحث “السيستاني والولايات المتحدة والسياسة في العراق، Sistani, the United States and Politics in Iraq، صفحة ٧، ريدار فيسر، ٢٠٠٦)
امتازت هذه المرحلة بنقطتين:
١- تعزيز الثقافة السياسية الديمقراطية. منذ صيف عام 2003، دعا السيستاني باستمرار إلى إضفاء الطابع المؤسسي، ولعل أهم مساهمة للسيستاني هي دعوته للمشاركة السياسية الواسعة في بناء نظام حكم ديمقراطي.
٢- كان السيستاني من المدافعين الرئيسيين عن مساءلة الحكومة وتشكيل الشرعية على أساس المثل العليا للسيادة الشعبية كوسيلة لتحدي خطط سلطة الائتلاف المؤقتة من أعلى الهرم إلى أسفله لإرساء الديمقراطية في العراق. كما أصدر عدداً من الفتاوى التي تطالب المؤمنين بالتصويت، وإلزام النساء بالمشاركة في الانتخابات حتى دون موافقة أزواجهن. (راجع كتاب “إحياء الشيعة: كيف ستؤثر الصراعات داخل الإسلام على المستقبل”،The Shia Revival: How Conflicts Within Islam Will Shape the Future، صفحة ١٨٩، بروفيسور ولي رضا نصر، جامعة جونز هوبكنز، واشنطن دي سي)
ينظر العديد من العلمانيين في دعوة السيستاني إلى كتابة دستور يحافظ على طابع إسلامي يتوافق “مع الحقائق الدينية والقيم الاجتماعية للشعب العراقي” كمحاولة لفرض قواعد وقيم معينة ترتكز على مجموعة من القواعد الأخلاقية والعقابية المتزمتة، مثل قطع اليد في جريمة السرقة، والرجم في حالة الزنا، والموت في حالة الردة. (راجع مقال “العالم؛ الشيعة في العراق يصرون على الديمقراطية. واشنطن تشعر بالانزعاج” ،The World; Iraq’s Shiites Insist on Democracy. Washington Cringes، أليكس بيرينسون، صحيفة نيويورك تايمز، ٣٠ تشرين الثاني ٢٠٠٣)
لم يتوغل هذا الرأي في عمق النظرية السيستانية حول العلاقة بين الدين والدولة الدستورية. إن دعوته الواضحة لأسلمة الدستور لا تسعى إلى تشكيل نظامٍ تحكمه الشريعة حيث تكون القيمة المعيارية الوحيدة للعدالة، بل إلى ضمان عدم استبعاد الإسلام، باعتباره أحد المصادر للسلطة الشرعية، من الهيئة القانونية العراقية.
ومع موافقة السيستاني على الدستور في تشرين الأول ٢٠٠٥، فقد وافق بالفعل على المادة ٢ من الدستور، التي لا تعترف صراحةً بالإسلام كمصدر للتشريع فحسب، بل تحظر تمرير القوانين التي تنتهك مبادئ الديمقراطية، من حيث المبدأ، للحقوق والحريات الفردية، وفي نفس الوقت، وضْعُ حدٍ للعلمنة الكاملة للدستور، الأمر الذي من شأنه حرمان دولة مسلمة من هوية وطنية “أصيلة” مبنية على إرثها الإسلامي. بالنسبة للكثيرين، تعتبر المادة ٢ تناقضًا في المصطلحات، لكن بالنسبة للمرجع الأعلى، فإن هذه المادة توضّح في الواقع الشكل الأكثر شرعية للسلطة السياسية، كما قال لأري دايموند في مقولته الشهيرة بحق السيستاني: “المؤمن الصادق بالشرعية السياسية للعقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين”.
في وصفٍ دقيق للنظرية السيستانية، يقول دكتور باباكا رحيمي: “يشعر السيستاني أن الدستور هو وسيلة لإعادة تأكيد السيادة الشعبية، وهو ما يعكس معايير الفضيلة والعدالة الإسلامية. مع أخذ ذلك في الاعتبار، فمن الأهمية بمكان عدم الخلط بين المفهوم الإسلامي للدستور ومفهوم السيستاني الدستوري للديمقراطية الإسلامية. بينما يسعى الإسلاميون إلى جعل الدولة متوافقة تمامًا مع النظام القانوني الإسلامي، يهدف السيستاني إلى استيعاب الشريعة الإسلامية جنبًا إلى جنب مع المعايير القانونية الأخرى ذات الدلالات الاجتماعية والسياسية المختلفة في الحياة اليومية”. (راجع بحث “آية الله السيستاني والتحول الديمقراطي: عراق ما بعد البعث”، Ayatollah Sistani and the Democratization of Post-Ba’athist Iraq، صفحة ١١، دكتور باباكا رحيمي، جامعة كاليفورنيا، سان دييغو)
يبذل السيستاني قصارى جهده لجعل الشريعة الإسلامية أساس القانون المدني العراقي، على الرغم من رفضه، في الوقت نفسه، تأييد النظام الثيوقراطي القضائي الذي تهيمن عليه المؤسسة الدينية
قد يُصاب القارئ بضبابية القيم الديمقراطية عند المرجع الأعلى ومبدأ الشمول الديمقراطي كما وقعت به الأحزاب اليسارية والليبرالية التي تجاوزت على القيم الأخلاقية للمجتمعات. لذلك نرى المرجع الأعلى يحرّم المثلية و الجندر وغيرها من المستجدات التي تبنّاها الليبراليون
التفسير السائد في الجامعات العلمية الغربية بأن المرجع الأعلى يفضّل الفصل التام بين الدين والسياسة وبين الحوزة العلمية والدولة، لكن الواقع قد فُرِض عليه تأسيس دعائم النظام السياسي الديمقراطي في العراق، وهذا يندرج ضمن تقليد التدخل “العرضي” في السياسة والذي يعود إلى حكم مقاطعة التبغ الذي أصدره آية الله الشيرازي في عام ١٨٩١، حيث بدأ السيستاني التدخل بفتوى “الديمقراطية” التي كسرت صمته السياسي في حزيران ٢٠٠٣، ليؤسِس لدولة ليبرالية إسلامية تحافظ على القيم الإسلامية في بلدٍ ديمقراطي دستوري.