أنعش استيلاء الاستعمار العثماني السُنّي على بغداد في عام ١٥٣٣، من سيطرة الإمبراطورية الفارسية، في إستعادة الحكم السنّي، طموحات الرجوع إلى الحقبة العباسية التي كانت مقرها في بغداد لأكثر من خمسة قرون، مارست التنكيل بالشيعة، ودفنهم أحياء في مقابر جماعية.
عزز مخاوفَ السنّة سقوطُ النظام الدكتاتوري في العراق عام ٢٠٠٣، لِيستحضروا الثورات الشيعية ضد الخلافة الأموية والعباسية في التاريخ الإسلامي المبكر. كما صور الإعلام المضلل بأن العراق سيكون أول دولة عربية تصبح شيعيةً علناً. علاوة على أن الانتقال من سيطرة السُنّة إلى الهيمنة الشيعية قد أقلق الدول السنّية. يزعُم الخائفون بأن إحياء ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء في أيار ٢٠٠٣، والذي شارك فيها نحو مليوني شيعي، بمثابة شهادة مبكرة على حقيقة مفادها أن العراق أصبح الآن دولة شيعية، والذي سيُحرّك التنظيمات الشيعية كحزب الله السعودي، وتجمع علماء الحجاز، والحركة الإصلاحية، و كتلة الوفاق البحرانية بالمطالبة من دول المماليك بالحقوق السياسية والدينية للشيعة. يدّعون زوراً بإن الروابط التنظيمية والدينية بين الحوزات الشيعية في إيران والعراق ليست سوى الرابط الأكثر وضوحاً في شبكة آيات الله وممثليهم ومنظماتهم والحوزات الشيعية الممتدة من لكناو في الهند إلى زنجبار في تنزانيا لِتمتد الى مدينة ديربورن في ميشيغان.
لم ينجُ الشيعة حتى من المفكرين في الغرب، فقد ذكر الدكتور إسحاق نقاش في كتابه: إن هيمنة علماء الدين على السياسة الشيعية في العراق اليوم تعني أن النهضة الشيعية في البلاد ستغير حتماً ثقافة البلاد ومكانة الدين فيها، الأمر الذي سيؤثر بشكل عميق على العلاقات بين الشيعة والسنة داخل العراق وكذلك في المنطقة ككل! (راجع كتاب “شيعة العراق”، The Shi’is of Iraq، صفحة ١٧ – ٢٦، أستاذ مساعد دكتور إسحاق نقاش، جامعة برينستون الأمريكية، ٢٠٠٣)
العنف الذي تعرّض له شيعة العراق، بعد عام ٢٠٠٣، ولِدَ أولاً في جنوب آسيا وأفغانستان في تسعينيات القرن الماضي على يد جماعات مسلحة مرتبطة بطالبان وتنظيم القاعدة، كالهجمات التي وقعت في كراتشي وكويتا ومزار شريف. لذا، هجمات المتشددين في العراق هو نتاج لتنافس متجذر في المنطقة أكثر من كونه نتيجة مباشرة للتطورات الأخيرة في العراق. بعبارة أخرى، إن صعود النجم الشيعي وتراجع القوة السنية في العراق لم يخلقا التشدد السني فحسب؛ بل أنعشاه وشجعاه. إنتقل فايروس العداء للشيعة من الوهابية إلى الحكومات من نيجيريا إلى إندونيسيا وماليزيا وما يمثلوه من الهوية السنّية لرسم إسفين واضح بين الإسلام السني والشيعي، فأثنت على الأول ـ وحكوماتها كمدافعة عنه ـ ووصفت الثاني بالتطرف الرافضي.
نشأت الوهابية في شبه الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، وهي اليوم المذهب السائد في المملكة العربية السعودية والإمارات. إن عداء الوهابية للشيعة قديم قِدَمِ المدرسة نفسها؛ غزت الجيوش الوهابية جنوب العراق ودنسوا مراقد الشيعة المقدسة في كربلاء في عام ١٨٠١. طوال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، أصدر علماء الوهابية فتاوى تسمّي الشيعةَ بالرافضة و الكفار. تبنّت طالبان نفس الآراء؛ وصفوا مذبحتهم للشيعة في مزار شريف في عام ١٩٩٧ بأنها “انتقام الحقيقة”. (راجع بحث “التداعيات الإقليمية لصحوة الشيعة في العراق”، Regional Implications of Shi‘a Revival in Iraq، صفحة ١٣، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، واشنطن ٢٠٠٤)
لم يكتفِ الحكام من صدام حسين في العراق إلى ضياء الحق في باكستان بالتأكيد على الهوية السنّية لبلدانهم وأنظمتهم، بل سمحوا أيضاً بقتل الشيعة. مارس صدام حسين أبشع الجرائم ضد شيعة العراق، كما تركت موجةُ التفجيرات في باكستان ندوباً في التأريخ الشيعي المعاصر و عاراً في سجلّ الوهابية. كان أعظم طارق، زعيم جيش الصحابة الباكستاني، أحد أكثر القوى الطائفية المناهضة للشيعة عنفاً في البلاد والتي ترتبط بطالبان والقاعدة، الحليف الإسلامي الأكثر شهرة للرئيس برويز مشرف. كما انخرطت حركة طالبان، التي كانت أفكارها تتبلور في المعاهد الدينية التي تتلقى تمويلاً من المملكة العربية السعودية، وحلفاؤها في أفغانستان والهند وباكستان في قصف المساجد الشيعية واغتيال زعماء الشيعة والمسؤولين الحكوميين والشخصيات الدينية، و ذبح الشيعة في باميان في عام ١٩٩٨. (راجع كتاب “طالبان: الإسلام المتشدد والنفط والأصولية في آسيا الوسطى”، Taliban: Militant Islam, Oil and Fundamentalism in Central Asia، ص ٦٢ – ٦٤، جامعة ييل الأمريكية، ٢٠٠١)
في أفغانستان وباكستان، أصبحت مدرسة ديوبندي للإسلام السنّي المتشدد الوسيلة الرئيسية لنشر وجهات النظر الوهابية المعادية للشيعة. إن الميليشيات الطائفية المناهضة للشيعة في باكستان، مثل جيش الصحابة وجيش جنجوي، تنحدر من مدارس ديوبندية وتحافظ على علاقات وثيقة مع طالبان والمنظمات الإرهابية مثل جيش محمد وحركة المجاهدين التي تنشط في كشمير. تباهى مؤسس جيش جنجوي، رياض البصرة، بأنه كان رفيقًا مقربًا لأسامة بن لادن. يزعُم أحمد رمزي يوسف أنه نفذ تفجير أحد الأضرحة الشيعية المقدسة في مشهد بإيران. (راجع كتاب “أمل والشيعة: النضال من أجل روح لبنان”، Amal and the Shi’A: Struggle for the Soul of Lebanon، بروفيسور أوغسطس ريتشارد نورتون، جامعة تكساس الأمريكية، ١٩٨٧)
على المستوى الدبلوماسي، لعبت الرياض دوراً فعالاً في إقناع واشنطن بالتراجع عن وعودها بدعم انتفاضة الشيعة ضد نظام المجرم صدام حسين في جنوب العراق في عام ١٩٩١، كما أقنعتها بالدفاع عن هيمنة السنة في بغداد. (راجع البحث “التداعيات الإقليمية لصحوة الشيعة في العراق”، Regional Implications of Shi‘a Revival in Iraq، صفحة ١٣، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، واشنطن ٢٠٠٤)
كما كان لدور العاهل الأردني و الرئيس المصري المخلوع أثرٌ سيئٌ على العراق. حذّر الملك عبدالله الثاني لصحيفة واشنطن بوست بالهلال الشيعي في ٨ كانون الاول ٢٠٠٤، (راجع المقال “Iraq, Jordan See Threat To Election From Iran”)، ولقناة أن بي سي الأمريكية بأن أنتخابات كانون الثاني ٢٠٠٥ ستفرز حكومة إسلامية على غرار الحكم في إيران، وستكون دول الخليج في خطر. (راجع لقاء “Jordan’s Abdullah concerned Iraq may tilt toward Tehran”)
أما المخلوع حسني مبارك فكان أشد وطأة في تصريحه على قناة العربية في ٨ نيسان ٢٠٠٦ حيث قال بأن “ولاء اغلب الشيعة في المنطقة هو لايران وليس لدولِهم”. (راجع لقاء حسني مبارك على قناة العربية)
كما وظّفت المخططاتُ الدوليةُ الخلافاتَ السياسيةَ في العراق لصالحها. في ٨ شباط ٢٠٠٧، نشرت صحيفة وول ستريت جورنال مقالاً: “الحرب الأهلية في العراق هي أفضل أمل لأمريكا”، (Iraq’s Civil War Is America’s Best Hope).
يذكر صاحب المقال: “الولايات المتحدة ستكون في وضع أفضل إذا سمحت بتكثيف الحرب الأهلية في العراق، على الرغم من أن ذلك يعني عددًا كبيرًا من الضحايا على المدى القريب”. يسترسل الكاتب: “تحتاج الولايات المتحدة إلى ترك الحرب الأهلية تأخذ مجراها – وهي عملية قد تستغرق ما يصل إلى عقد من الزمان – حتى تجد الفصائل المتحاربة مثل هذه الصفقة مرغوبة”.
إن الهجوم السني على الشيعة مدعوم بشكل مباشر من المملكة العربية السعودية والوهابية وشبكة الإرهاب التي أفرزتها الوهابية، وخاصة في أفغانستان وباكستان. تنظر الوهابية إلى كل من لا يشترك في آرائها، وخاصة الشيعة، باعتبارهم كفاراً. (راجع بحث “التداعيات الإقليمية لصحوة الشيعة في العراق”، Regional Implications of Shi‘a Revival in Iraq، صفحة ١٢، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، واشنطن، ٢٠٠٤)
إن العنف ضد الشيعة ليس مجرد خطة استراتيجية يستخدمها الإرهابيون لخلق حالة من عدم الاستقرار في العراق؛ بل إنه يشكل جزءاً أساسياً من أيديولوجية التشدد السنّي الذي غذّته دول الخليج و مَن وراءها. أدرك المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله المخطط الذي يُراد للعراق، فتعامل مع المشهد السياسي بأسلوب حذر يتناسب مع رؤيته لعراق جديد.
كان يمكن أن يشهد العراق إبادة جماعية أخرى لولا المرجع السيستاني. لقد أنقذ السُنّة في العراق. كرر السيستاني غير مرّة أن العراقيين من مختلف الطوائف هم “إخوة في الإنسانية” و “شركاء في الوطن الأم”. (راجع بيان السيستاني، “رسالة إلى الشعب العراقي بشأن الفتنة الطائفية”، بتاريخ ١٨ تموز ٢٠٠٦)
أرجع سماحة المرجع السيستاني العنف المتزايد في الغالب إلى “الجريمة المنظمة” وليس الطائفية. كما لفت الانتباه لأول مرة إلى دور التدخل الأجنبي في إثارة العنف الطائفي.
مع كل الإثارات الدولية و الفتن التي غذتها الدول الإقليمية، كان سيدُ النجفِ، السيستاني دام ظله، الوجه المشرق و صمام أمان في إستقرار العراق والمنطقة. فقد نشرت صحيفة رويترز فقد نشرت مقالاً في ٤ ايلول ٢٠٢٢ تحت عنوان “كيف أوقف رجل دين يبلغ من العمر ٩٢ عاماً انزلاق العراق مرة أخرى إلى الحرب”، ( How a 92-year-old cleric silently halted Iraq’s slide back into war).
يتحدث المقال عن موقف سماحة اية الله العظمى السيستاني في إطفاء نار الفتنة، التي أججتها بعض الاطراف المسلحة. يذكر المقال: “عندما دفع تصريح من قبل عالم ديني بأن العراق على شفا حرب أهلية، لم يكن هناك سوى رجل واحد يمكنه إيقاف ذلك: رجل دين شيعي، السيستاني، يبلغ من العمر ٩٢ عاماً أثبت مرة أخرى أنه أقوى رجل في العراق.”
تقول كارولين مرجي، استاذة في كلية كونكتيكت الأمريكية، في كتابها “المرجعية الدينية، الموقف الوطني في العراق ما بعد صدام” (Patriotic Ayatollah nationalism in post Saddam iraq): “علِمَ السيستاني في وقت مبكر أن قادة العراق وجدوا في الطائفية استراتيجية افتراضية لبناء القاعدة الاجتماعية التي لا يمكنهم بناؤها في المنفى. كانت سياسة الهوية، المستمدة من رواية الضحية، متأصلة في النظام السياسي”.
كما أدرك المرجع الأعلى، السيستاني، منذ اليوم الاول من إحتلال العراق بجعله ممزقاً؛ حرب طائفية يقتل سنّته شيعته وبالعكس، لإدامة وجود المحتل في بلاد الرافدين، مما دفعه لاتخاذ قرارات مصيرية في مواجهة الفتنة الطائفية. في ١٦ حزيران ٢٠٠٧، نشرت صحيفة رويترز مقالاً بعنوان “السيستاني العراقي يحث على وقف الهجمات على مساجد السنة”، (Iraq’s Sistani urges end to attacks on Sunni mosques)، وغيرها من المقالات التي تهدّئ الشارع الشيعي.
سنّةُ العراق قبل شيعته مدينةٌ للمرجع الأعلى، السيستاني، في حفظ دمائهم و إيقاف القتل الطائفي، في قِبال الوهابية التي أجازت إراقة دم الشيعة و ذبحهم. عمل السيستاني على تقديم بديل للقتل الطائفي الذي توصل إليه الكثيرون لتفسير هذه الأحداث. تحدث كثيرا عن تاريخ العراق الطويل. شدد على سنوات من التعاون بين الطوائف في الدفاع عن البلاد عندما كانت تتعرض للهجوم، كما جاء في مقال الفرنسية برس “السيستاني: العراق قد يواجه التقسيم من دون إصلاح. (Sistan: Iraq could face ‘partition’ without reform، بتاريخ ٢١ آب ٢٠١٥)
جعل آية الله العظمى السيستاني نظريات التشيع تطبيقاً و ممارسةً ومنهجاً شرعياً وأخلاقياً في إحترام كرامة الإنسان. أخرج الممارسة من شرنقة التنظير إلى فضاء التطبيق الفاعل، حتى شهد له الصديق والمبغض بحُسْنِ إجلالٍ وثناء… إنه السيستاني.