18 ديسمبر، 2024 6:18 م

السيرة الذاتية

السيرة الذاتية

تثير السيرة الذاتية للشخصيات المؤثرة حماس أي مؤلف للكتابة عنها كما تثير شهية الممثل أو أي مبدع ٍ لتجسيدها ضمن مجاله أياً كان، خاصةً عندما يكون لها وقعٌ مميز وصدىً ملموس لدى الناس وتحمل مسيرتها تنوعاً وغنىً وتبايناً في مراحلها المختلفة، مما يكسبها زخماً وألقاً ويضفي عليها بعداً إنسانياً يقربها من المتلقي، فيجعله يرى بينه وبينها نقاطاً مشتركة أو تذكره ببيئته أو شخصٍ يعرفه، فيصبح هذا الرمز أو تلك الأيقونة جزءاً من حياة الكثيرين وذكرياتهم..

فتحصد الرموز الوطنية والفنية والثقافية أو الشخصيات التاريخية المهمة هذا القدر من الإهتمام، وتليها بشكلٍ أقل بكثير الشخصيات السياسية، لكن مع رحيل الكثير منهم على اختلاف تجاربهم بعد مسيرةٍ طويلة قد تمتد لعقودٍ، نلاحظ أن أغلب المحاولات لتوثيقها أو تقديمها بأي شكل ٍ كان فنياً أو أدبياً أو حتى من خلال الأفلام الوثائقية لا تستطيع الإحاطة بتفاصيلها فعلياً بشكل ٍ دقيق أو منصف، ولربما خضع العديد منها لرؤية الكاتب أو صناع العمل بعيداً عن المهنية أو توخي الموضوعية فيضعها كشخصية في قالبٍ من المثالية، لحكمه عليها بشكلٍ عاطفي ينزع عنها أبسط صفات البشر الذين يخطئون ويصيبون دون أن ينتقص ذلك منهم، أو يقدمها بأسلوب ٍ يشوبه التحامل عليها أو الإساءة إليها خدمةً لأشخاص أو لوجهة نظر مختلفة، ولذلك لا نستطيع اختصار حياة أي إنسان في عملٍ ما مهما بلغ اتقانه، كما لا نستطيع أن نعرف الكثير من التفاصيل الدقيقة والشخصية التي تشكل فارقاً كبيراً في النظرة إلى العمل ككل من جهة، والتي يظل أيضاً من حق صاحبها والمقربين منه عدم إظهارها للعلن مراعاة ً للخصوصية من جهة ٍ أخرى..

ونلحظ إعداد عددٍ من التقارير السريعة كنوعٍ من المواكبة لرحيل معظم الشخصيات الهامة في الإعلام، وذلك في مدةٍ تتراوح بين ثلاثة إلى ستة دقائق على حدٍ أقصى، ليدفعنا ذلك إلى شعورٍ مضاعف بالحزن عليها لشعورنا أن سنوات العمر مهما امتلأت بالعطاء ستختزل لا محالة ضمن ومضاتٍ سريعة جداً ليطويها النسيان، فلا يذكرها إلا محبو تلك الشخصية أو المقربون منها..

مما دفعني إلى التساؤل حول هذا السلوك البشري الذي يمعن في التجاوز..تجاوز كل شيء وكأنه لم يكن، ولأتخيل هذا الرسام أو تلك الشاعرة أو ذاك المناضل في لحظاتهم الخاصة يضحكون، يبكون، يتألمون، يشعرون بالوحدة والبرد والظلم أو الفرح، يجتهدون في سبيل تحقيق حلمهم كأي إنسان ٍ عادي وأقارنهم بباقي الناس، لأجد أن المبدأ واحدٌ لا يستثني أحداً، يجمع الأيقونة بربة المنزل المشغولة بهموم الحياة مع عامل النظافة وسائق الشاحنة وبائع العطور والطبيب والمذيع وغيرهم ليقدموا سيرتهم التي لا يعرفها الجميع، لكنهم يسطرونها بإختياراتهم ومواقفهم وكلماتهم، والتي يعتقدون أنها تمر مرور الكرام، لكنها تظل محفورةً في ذاكرة من عاصروهم (وإن قلوا) تاركةً لهم من هذه السيرة درساً أو مثالاً أو نموذجاً أو إرثاً معنوياً خالصاً يبقى كشجرةٍ تظلل ذكراهم..

فالصدق والإحساس والتلقائية والتواضع واحترام الذات والإبتعاد عن المهاترات أو التحزبات أو التصنيفات، وترفع النفس عن مالا يليق بها ومن لا يليق بها يختار لها خطها وطريقها ومن يرافقها فيه رغم قلتهم، فيتلاشى البريق الزائف والكلام الأجوف المصطنع ويتلاشى معه بعض مظاهر الحب والإنبهار المؤقت الذي يموت بينما أصحابه على قيد الحياة، ليبقى فقط ما يشبه الناس والأرض فيمسهم ويعزف على شغاف قلوبهم، ويخاطب عقلهم ووجدانهم لا غرائزهم ودموعهم وتعصبهم، ليخلق مساحةً من التصديق والإحترام لأصحاب هذه المبادىء الذين يعانقون الخلود ليبقوا بعد رحيلهم، مما يؤكد أن السيرة الذاتية لأي شخص هي خياره الكامل الذي سيبقى منه وسيكتبه بنفسه ولنفسه، وهو من سيصنع مكانه بيده عبر الزمن، وامتحان الزمن قاسٍ لكنه عادل لأنه لا يذكر سوى الحقيقي والأصيل..

خالد جهاد..