29 ديسمبر، 2024 4:53 ص

السياسي والاجتماعي واثره على الوضع العام

السياسي والاجتماعي واثره على الوضع العام

التوافق كما أفهمه هو أن نجتمع بداية حول النقاط والأفكار والمبادئ التي لا خلاف حولها، فنثبتها ونمر بعد ذلك إلى فتح حوار حول ما حوله خلاف للنظر في إمكانية الوصول إلى اتفاق بشأنها أو تقريب وجهات النظر بخصوصها للوصول إلى حلول وسط يمكن أن تسهم في تمريرها بشكل توافقي، واستبعاد نقاط الخلاف المرتبطة بقضايا يمكن تأجيلها لمرحلة لاحقة يكون التوافق عليها ممكناً أو متاحاً أو أكثر سهولة، في ظل أوضاع سياسية أكثر هدوءاً وأقل تجاذباً وصراعات.
فتجارب الدول التي شهدت صراعات سياسية أو تجاذبات أكدت أنه لا بديل عن التوافق وعن القبول بحلول الوسط والتدرج في تحقيق الأهداف، وأن الشعوب التي سارت في غير هذا الاتجاه، سواء من خلال الانقلابات العسكرية والسياسية والثورية أو من خلال اعتماد منطق الأغلبية لم تشهد استقراراً وظل الصراع والتجاذب قائمين، لأن القضايا الوطنية الجوهرية لم يتم حسمها عن طريق التوافق، بعيداً عن المناورة والغش.. وفي هذا السياق أذكر أن التوافق الوطني في بلد مثل البرازيل قد حدث بعد صراع طويل أوصل القوى السياسية إلى الاتفاق على الدستور في صيغته الأولية، وتم إقراره والعمل به، ولم يستكمل إلا بعد 28 سنة كاملة تم خلالها وعلى امتدادها إدخال 78 تعديلاً دستورياً. إذن نحن لن نعيد اختراع العجلة، فطريق المصالحة والتجاوز هو الحوار الوطني والتوافق على ما يمكن التوافق عليه بداية -وهو بالمناسبة كثير- يتفق عليه السياسيون ليشكل قواسم مشتركة لدى الجميع حول الكثير مفردات الحل السياسي، ولتكن هذه المفردات هي الأساس لكتابة برنامج التوافق للمرحلة المقبلة، على أن يضمن الوحدة الوطنية وفتح باب المراجعة الدائمة..
لكن الحديث عن التوافق الوطني، يحتاج لتحديد مجال هذا التوافق والأسباب الداعية إليه. فالاختلاف بين القوى والأحزاب السياسية هو أساس العملية السياسية التعددية، وأساس التنافس الديمقراطي، وبالتالي يصبح التنوع هو جوهر عملية التنافس السياسي. ولكن يأتي دور التوافق الوطني في القضايا العامة والوطنية، التي تحتاج لتوافق واسع بين الناس، والتي تمثل الاختيارات السياسية العامة، التي يبنى عليها النظام السياسي. لذا يمكن القول أن التوافق الوطني السياسي، لا يجوز إلا فيما هو مجمع عليه بين الناس، فالقوى والأحزاب السياسية، ليست هي وحدها من يحدد الاختيارات الوطنية والثوابت الوطنية، ولكن المكونات المجتمعية المختلفة، الكبيرة والصغيرة على حد سواء، هي التي تحدد تلك الأسس والثوابت. والثوابت التي تختارها الأغلبية، ليست ثوابت أغلبية سياسية، بل هي ثوابت أغلبية مجتمعية، يحدث حولها توافق بين مختلف المكونات المشكلة للمجتمع. فهي ليس أغلبية سياسية متغيرة، بل هي الأغلبية المجتمعية السائدة، وتلك الأسس ليست من القضايا التي تختلف عليها الأحزاب، وبالتالي فهي ليست برامج حزبية أو سياسية، ولكنها القواعد العامة التي يتفق عليها المجتمع، ويبنى عليها النظام السياسي، وهي نفسها القواعد العامة المنظمة للمجتمع، فلا يوجد مجتمع بلا قواعد عامة وقيم أساسية ومبادئ عليا، والتي توافق عليها المجتمع بالفعل في السابق في ميثاق العمل الوطني وفي الدستور وفي الخيارات الكبرى التي اجمع عليها الناس مثل هوية الوطن وطبيعة النظام السياسي والوحدة الوطنية والتسامح وضمان الحرية والديمقراطية والعدالة والشفافية والمشاركة في الحياة السياسية لجميع المواطنين والمواطنات على قدم المساواة، وشرعية النظام السياسي وغير ذلك من القواعد، والتي تجعل النظام السياسي متوافقاً مع النظام الاجتماعي ومنظومة القيم الثقافية والحضارية السائدة، فتصبح الدولة بكل سلطاتها تعبيراً عن المجتمع، وممثلة له، وتصبح القوى والأحزاب السياسية متوافقة على ما توافق عليه المجتمع.
من المؤسف أن بعض الأطراف السياسية ما تزال إلى حد اليوم متمسكة بمفاهيم ورؤى حزبية وحتى طائفية في بعض الأحيان غير قابلة للتوافق عليها، ومع إدراكها باستحالة ذلك تعلن وتصر على أنها لا يمكن أن تتنازل أو تقبل بدونها، مما يؤكد ضعف الخبرة السياسية لديها، وعدم واقعيتها في ذات الوقت، وهو ما يعطل حالياً ترجمة هذا التوافق عملياً على الأرض ولا يشجع الأطراف الأخرى على الانخراط معها في حوار توافقي جاد ومثمر.