مقبول وممتع ونافع جدا أن يكتب مذكراتِه واحدٌ غير عادي، زعيم سياسي، مفكر، فيلسوف، مخترع، قائد عسكري، رجل دين، زعيم شعبي أو صاحب أية صفة أخرى، بشرط أن يكون قد أظهر إنجازا غير مألوف وغير اعتيادي في عصره أو في العصور التي جاءت بعده، سواء كان من الخيّرين المحترمين، أو من الشريرين المبغوضين والملعونين.
والمذكرات المهمة التي تستحق القراءة هي مذكرات شخصيات نادرة بأهمية مثلا، غاندي وكارل ماركس ولينين وماوتسي تونغ وغويفارا وغاندي وهتلروموسليني وحافظ أسد وفيدل كاسترو وأبي بكر البغدادي ومعمر القذافي وقاسم سليماني، وحتى أوباما وترمب، ممن حفظت البشرية أخبارهم إما للعبرة والموعظة أو للتندر والتسلية وحب الاستطلاع.
فمن حق الجنرال ديغول، مثلا، أن يحدثنا عن دوره في تحرير فرنسا بعد أن احتل الجيش النازي الألماني بلاده فرنسا، بالكامل،1940، وعن هربه إلى بريطانيا وإعلانه من هناك نداءه الشهير (فرنسا حرة ومستقلة بكرامة) لمقاومة الاحتلال، داعيا الجيش الفرنسي إلى الالتحاق به في لندن، وعن انتصاره وعودته مظفرا إلى بلاده المحررة، وتسلمه منصب رئيس الجمهورية، 1959، ثم طلبه إجراء استفتاء شعبي، 1969، لتكريس اللامركزية وإدخال إصلاحات تجديدية على مجلس الشيوخ، مُهدِّداًبالاستقالة إذا فشل في تمرير مشروع هذا القانون.فجاءت النتائج مخيبة لآماله، حيث صوت 52% من الفرنسيين ضد قانونه، وهو الأمر الذي جعله يفهم أنه لم يعد حبيب الغالبية العظمى من الفرنسيين، فتقبّلالواقع بأريحية، ولم يُعيّر الفرنسيين بجهاده القديم، فاستقال وهو غير نادم، ليمنح مواطنيه فرصة اختيار من يثقون به أكثر منه، واختار العزلة، وهو سعيد.
وممتع ونافع أيضا أن نقرأ مذكرات نيلسون مانديلا، مثلا، صاحب القول المأثور، (إذا قبضت المال ثمناًلنضالي فسوف أتحول من مناضل إلى مرتزق)، ليشرح لنا كيف بدأ جهاده المضني المميت ضد العنصرية المتطرفة التي مارسها البيض في جنوب إفريقيا ضد مواطنيه السود، وعن قضائه ثلاثة أرباع عمره سجينا أو مطاردا مطلوبا حيا أو ميتا، ثم عن انتصاره، أخيرا، ثم عن الثقة الإجماعية التي منحها له مواطنوه السود والبيض، معا، فجعلوه رئيس جمهوريتهم. وبعد أن أتمَّ بناء الدولة الجديدة العادلة العاقلة، وأرسى في المجتمع الجديد روح التسامح والوسطية والمسالمة تقدم باستقالته وغادر قصر الرئاسة ليعيش باقي عمره مواطنا عاديا بلا حراسة ولا راتب تقاعدي ولا امتيازات.
ومهم أيضا لو كتب صدام حسين مذكراته، خصوصا إذا بدأها بولادته، ثم طفولته البائسة ويُتمه وفقره، ثم دخوله المدرسة متأخراً أربع سنوات عن زملائه، فإقدامه على اغتيال ابن عمومته الحاج سعدون الناصري في تكريت 1958 وهو إبن العشرين، ليبدأ اسمه بالظهور، ثم مشاركته في عملية اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم من قبل البعثيين،1959، وهو لم يصبح بعثيا بعد، ثم هربه إلى سوريا ومنها إلى مصر، ثم عودته إلى العراق ليرافق إبن عمومته، الأمين العام للقيادة القطرية لحزب البعث، أحمد حسن البكر، ثم لينجح الحزب في انقلاب 1968 ليصبح هو مساعداً، فنائبا للرئيس، وليمسك بأجهزة الأمن والمخابرات، ويستخدم المسدس لإزاحة خصوم الحزب، ثم خصوم الرئيس، ثم خصوم العائلة، ثم خصومه هو شخصيا، وليتولى الرئاسة، بعد ذلك، وحيدا وبكل ما عرف عنه من عناد وقسوة وعنف، ثم دخوله الحرب ضد غريمه الخميني، ثماني سنوات، ثم غزوه الكويت، ثم محاكمته التلفزيونية، فصعوده خشبةَالإعدام ومن حوله أعداؤه الإيرانيون ووكلاؤهم يهللون ويرقصون، وهو ينظر إليهم ساخرا سائلا (هل هذه هي الرجولة)؟.
ولكنّ المضحك والمبكي، معا، هو أن يكتب مذكراتهم أشخاصٌ لم يكونوا، وهم في الحكم، ولم يصبحوا وهم خارجه، سوى نباتات طفيلية نبتت في غفلة، وبفعل فاعل، سرعان ما تختفي ويلفها النسيان فور أن ينتهي الزمن الرديء الذي منحهم القدرة على الكلام.
فلو لم تلتقطهم دبابات الغزو الأمريكي من مقاهي دمشق وطهران وعمان وبيروت ولندن وواشنطن، ولو لميلفَّهم الاحتلالُ الإيراني بعباءته السوداء ويجعلْ منهم وزراء ونوابا وسفراء ومدراء وقادة مليشيات وأصحاب بنوك وشركات وقصور وعمارات لظلّوا، إلى هذه الساعة، يتسكعون على أعتاب مؤسسات المعونة الإنسانية في دول الاغتراب، ليتسلموا صدقاتها، وهمصاغرون.
خذوا مثلا. كتاب (تجربتي) لباقر صولاغ، (بين النيران) لأياد علاوي، (حكايتي والمسيرة) لسليم الجبوري، (تجربة حكم) لابراهيم الجعفري، (تجربة حياة) لحسين الشهرستاني، (رحلة وطن) لعمار الحكيم.، وأمثالها من مذكرات لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت عليه.
واحدٌ من هؤلاء هو مدير مكتب حزب الدعوة في سوريا 1990. تعرفت عليه في زيارتي لدمشق في تشرين الثاني/أكتوبر عام 1990 لأسجل معه لقاءًباعتباره معارضا لوطنه العراق وليس لنظام الحكم فيه. ولم أعرف أن اسمه (جواد المالكي) إلا بعد انتهاء اللقاء، وبعد أن اطمأن إليّ وزالت مخاوفه من أنني لست مدسوساً عليه من مخابرات صدام حسين.
وطبعا، لم يعلن هذا المجاهد الصنديد عن اسمه الحقيقي (نوري كامل المالكي) إلا بعد الغزو الأمريكي 2003، ولأعراف أن (جواد المالكي) كان هو اسمه المستعار.
أجريتُ اللقاء معه. وقد اشترط قبل بداية التسجيل أن أكتفي بمناداته باسم (أبو إسراء). لم أحرجه بسؤالي عن سبب خوفه وهو في دمشق وبحماية مخابرات النظام السوري وعدد من أعضاء حزب الدعوة الذين كانوا يعملون معه كحماية ذاتية أضافية، لكنني، مع نفسي، استغبيتُه واحتقرته كثيرا، وذلك لسببين، الأول لاعتقاده بأن مخابرات صدام غافلة عن معرفة اسمه الحقيقي وأصله وفصله، والثاني لجبنه.
وسألت نفسي، كيف يريد هذا المعارض أن يبشر بفكر حزبه ويكتسب المؤيدين والمناصرين ثم يُسقطنظام صدام حسين وهو يخاف من خياله إلى هذا الحد؟
أما الشخص الثاني الذي عرفته في تلك الزيارة فهو بيان جبر، ممثل المجلس الأعلى في دمشق. وكما فعلت مع (أبو إسراء)، أجريت معه اللقاء باسمه المتدول أنذاك، بيان جبر، لأكتشف، بعد زمن، أنه (باقر صولاغ).
أما الثالث الذي كان الأكثر خوفا ورعبا من صدام ومخابراته فهو أياد علاوي. فقد رفض إجراء أي حديث مسجل للإذاعة، وكان عذره، يومها، أن صوته معروف لدى مخابرات صدام.
والآن دعوني أتساءل، ماذا يمكن أن يقوله في مذكراتهم هؤلاء الذين كانوا، وما زالوا، مَسوقين بأوامر المرجعية، وبعصا الحرس الثوري، وتوجيهات سفارة الولي الفقيه؟،
وهل يملك، أيُّ واحدٍ منهم، بعضاً من الجرأة والصدق والأمانة ليحدثنا عن جرائم الخطف والاغتيال والخيانة التي ارتكبها وهو في الحكومة، وعن سرقاته التي تتحدث بها الركبان؟.