اليوم هناك مناخ مشحون وتنافس بين الأحزاب العراقية الكبيرة والكتل السياسية الصغيرة، ليس على صندوق الانتخابات فقط، وإنما على التعاطي مع البوصلة الجديدة لإدارة البيت الأبيض.
واجه العراقيون خلال الخمس عشرة سنة الماضية النتائج الحقيقية للمشروع الأميركي والمشاريع الإقليمية، وما خلفته من آثار سلبية أدت إلى تدمير كل ما يتعلق بتفاصيل حياتهم.
وأول النتائج الخطيرة هو التخريب الشامل الذي لحق بمرتكزات الدولة العراقية المدنية، إلى جانب فوضى الأمن وتعدد المرجعيات السياسية العقائدية، إضافة إلى تراجع التيار السياسي المدني أمام سطوة وهيمنة الإسلام السياسي بشقيه، وتلاشي التنمية، وانسحاب الطبقة الوسطى، والاعتماد الكلي على ثروات النفط، والفساد الذي تغلغل في مختلف مفاصل الحياة اليومية. والأهم من ذلك حالة الإحباط الشعبي العام بسبب التوترات الطائفية، وحضور التطرف بدلا من الاعتدال. آثار استثمرتها ووظفتها القاعدة وبعدها داعش لمصالحهما وأهدافهما، وخدمة لبرامج الصراع الطائفي في كل من العراق وسوريا وباقي دول المنطقة.
ظل الأميركيون، تحت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، يراقبون الحالة العراقية عن بعد أمام حضور إيراني قوي وبأدوات نافذة في ظل فشل مشروع شراكة السلطة المعتمد على المحاصصة الطائفية.
وكثرت في الآونة الأخيرة التحليلات والتساؤلات حول ما يريده الأميركيون من العراق، حكاما وسياسيين ومواطنين، وهل سينفذ الرئيس الجديد دونالد ترامب وعوده الانتخابية في مواجهة الإسلام السياسي، وعلاقة كل ذلك بالحملة الإعلامية الهجومية المتبادلة بين طهران وواشنطن.
يجب ألا تقود وعود ترامب بالتضامن مع الحكومة العراقية لاستكمال طرد داعش من الموصل حكومة العبادي وأحزاب الحكم إلى حالة من النشوة والاسترخاء، لأن هذه الوعود لن تغيّر من الموقف الاستراتيجي للإدارة الأميركية الجديدة.
لا تستطيع الأحزاب الكبرى الحاكمة في العراق التنكّر لهويتها العقائدية والسياسية، بل إن بعضها يعتز بذلك، ويثير ردود فعل إعلامية ضد أميركا. ظهر ذلك في مناسبات عديدة خلال الفترة الأخيرة، مع أن الأمر أكبر من ذلك بكثير، فالعراق والمنطقة مقبلان على تحولات هامة بناء على ما سيحصل من توافقات إقليمية (إيرانية وسعودية وتركية)، ودولية (أميركية وأوروبية).
ونشهد خلال هذه الفترة استعدادات سياسية عراقية محلية للتعاطي مع سيناريو التغيير الذي تقوده أميركا، ومجمل انعكاسات تلك السياسة على الجارة إيران. وبغض النظر عن مصداقية التسريبات القائلة إن الأميركيين مقبلون على احتلال عسكري جديد للعراق، حيث سيتم نشر قواعد عسكرية في مناطق مختارة منه، أو ما يقال عن نوايا أميركية لمحاربة فصائل الحشد الشعبي أو بعضها، المهم هو الجهد السياسي العراقي الناضج للتعاطي مع المرحلة المقبلة والخدمة التي سيقدّمها للمواطن العراقي.
لن يحدث ترامب حالة تغيير دراماتيكية سريعة في العراق مثلما يتوقع البعض، ولكنه، ومن خلال أدواته السياسية والاستخبارية، سيعمل على عدة خيارات سياسية، من بينها تشجيع التيار الليبرالي العراقي كبديل لتيار الإسلام السياسي، ومساندة مختلف أطياف هذا التيار دون الاعتماد على طيف واحد منه يعتقد أنه الطيف الأكبر، فجميع دعاة المشروع الليبرالي يقفون على خط مشروع واحد. ولا يتوقع لإدارة ترامب أيضا أن تسعى إلى إعادة إنتاج الفاشلين سياسيا والمتورطين في الفساد.
ولا نعتقد أن الأدوات الأميركية في العراق تفتقد الملفات الشخصية والوظيفية لجميع القيادات والكوادر الحزبية والحكومية العراقية، فلم تعد المعرفة الأميركية في العراق “سياحية” مثلما كانت عشية 2003، وأصبحت لدى أجهزة المخابرات الأميركية -وهذا ليس سرا- القدرة على مراقبة ومتابعة القادة السياسيين العراقيين كبارا وصغارا وعلى التحكم بهم، ولدى هذه الأجهزة وثائق كاملة بالصورة والصوت عن جلساتهم السياسية والشخصية ومخططاتهم القريبة والبعيدة.
اليوم هناك مناخ مشحون وتنافس بين الأحزاب العراقية الكبيرة والكتل السياسية الصغيرة، ليس على صندوق الانتخابات فقط، وإنما على التعاطي مع البوصلة الجديدة لإدارة البيت الأبيض. والصدمة الأولى للسياسيين العراقيين التقليديين، داخل العملية السياسية وخارجها، أنهم لن يسمعوا على طاولة الحوار مع موظفين مدنيين وعناصر استخبارات في السفارة الأميركية ببغداد، ما كانوا يسمعونه خلال السنوات الماضية من لغة إطراء وتمجيد.
هناك تحديات واستحقاقات جدية أمام الطبقة السياسية لا تكفي الشعارات العامة للإيفاء بها، فالظرف الحالي مختلف ومن أولى معايير الفطنة السياسية التعاطي مع المتغيرات، بل لا بد من قرارات ومواقف تترجم إلى أفعال، فقصة “الفساد العام” مثلا ستأكل من جرف شعبية أحزاب السلطة والبرلمان وجمهورهما.
المشكلة الكبيرة التي تواجه قادة العملية السياسية هي عدم الاستعداد للتخلي عن المكاسب، وعدم الاعتراف بما خلفته السياسات التنفيذية من آثار مدمرة في حياة الناس، وما تركته إمبراطورية الفساد من نهب شامل للمال العام، وتخريب متعمّد للقيم العراقية الأصيلة، طالت شرايين منظومة الخدمات الإدارية ومن معها من موظفين عموميين يفترض أن يقدموا ويسهلوا خدمة المواطنين دون مقابل. لقد أصبحت الرشوة بين صغار الموظفين حقا مكتسبا، وهناك فنون للمخادعة والتحايل على القانون.
قد يشعر قادة الأحزاب الكبرى أنهم أكثر حرية في المناورة من رئيس الحكومة العبادي، الذي ما أن تحين ساعة الحساب حتى تعلق جميع الأعباء على رقبته، ولهذا عليه إن أراد أن ينجو بنفسه وينجو بالعراق، ولو أن وقت ذلك قد أصبح متأخرا، أن يتخذ إجراءات حاسمة وفق الصلاحيات التي يمتلكها ويشرع في تهديم جدران معمار الفساد والجرائم المنظمة، ويقرّ سيادة قانون الدولة.
ولا بد أيضا من إطفاء مقولة الشارع العراقي البغدادي التي يتم تداولها كرد على جميع التساؤلات “لا توجد دولة ولا يوجد قانون”، ولكن العبادي بعد تمزق مظلة “الانتصار على داعش” لن تتاح له فرصة الاستجابة الفورية للاستحقاقات المطلوبة، وهناك قيادات داخل “البيت الشيعي” لا تجد فيه القدرة والكفاءة والحسم السياسي رغم إمكانياته الهائلة.
مشكلة الأحزاب الكبرى هي إصرارها على اللعبة القديمة التي لم تعد تصلح في ظل المستجدات المحلية والإقليمية، ولا توجد حاليا مؤشرات واضحة على أنها تمتلك مشروعا سياسيا ناضجا وواضحا لمواجهة التطورات المحتملة. هناك جدل داخل أروقة تلك القيادات يمزج بين حالة القلق على المقبل من الأحداث، وبين فكرة التعامل بإيجابية مع المشروع الأميركي الجديد، باعتقاد مفاده أن قادة تلك الأحزاب لديها خبرة لوجستية متراكمة منذ عهد الحاكم بريمر مرورا بالقيادات العسكرية والاستخبارية الأميركية الميدانية، تمكنها من التعاطي مع المستجدات. أما على الصعيد السياسي فتعتقد تلك الأحزاب أن عدتها في الانتصار على داعش ستفيدها كبطاقة مرور للبقاء في السلطة.
مثل هذه التصورات تبدو غير فاعلة في المراحل التالية لهزيمة داعش، لأن الحصيلة النهائية بالنسبة إلى المواطن العراقي هي: ماذا قدمت له تلك الأحزاب، وما هي الحالة التي يعيشها اليوم؟ كما أن أركان إدارة ترامب تتشكل من الصقور المتشددين الذين لا يمانعون في تبني الخيارات العسكرية إن تطلّب الأمر ذلك.
ومما يزيد صورة الوضع السياسي ضبابية وتعقيدا هو يأس القيادات السنية من العملية السياسية وأحزابها، حيث أصبح لديها شعور ممزوج ببعض التطمينات الأميركية والسعودية والتركية، بأن سيناريو ترامب المتوقع سيخدمها ويحول حماسها لإقامة “الإقليم السني” حقيقة على الأرض.
الأهم من ذلك، هناك تيار ليبرالي من خارج السلطة ينمو لديه التفاؤل بالمشروع الأميركي الذي تنضج تفاصيله تزامنا مع حسم المعارك في كل من الموصل والرقة، ولدى قادة هذا التيار شعور بأن الإدارة الأميركية ستدعمهم في الأيام القليلة المقبلة، وأن المرحلة المقبلة هي مرحلة الانسحاب المنظم وفق التعبير العسكري لأحزاب الإسلام السياسي.
الفرصة الذهبية الآن تقع على عاتق ناشطي المشروع الوطني العراقي الليبرالي، ممن ينتظمون داخل كتل وأحزاب صغيرة لها مستقبل واعد، أو فئات من السياسيين والمثقفين المستقلين الذين لا غبار على نزاهتهم ووطنيتهم، وتقع عليهم جميعا واجبات شعبية ونخبوية واسعة للتعايش مع حاجات العراقيين الحقيقية، ودعم الجهود لإنقاذ الملايين من ضحايا داعش الذين تعرضوا لكوارث النزوح عن ديارهم، وفضح أساليب المتاجرة السياسية بهذه القضية الوطنية الكبرى، والتعاطي مع القضية الأمنية العراقية بعيدا عن روح الانتقام، وتحفيز ودعم المبادرات الشعبية التي تعمّق روح المواطنة والتكافل الاجتماعي بعيدا عن المزايدات، وذلك من أجل أن يهتدي الأميركيون إلى حقيقة أن في العراق قوى سياسية وطنية نظيفة غير طائفية يمكن الوثوق بها في المرحلة المقبلة.
نقلا عن العرب