18 ديسمبر، 2024 6:27 م

السياسة وتشويه الصور والحقائق المشوهة وكرسي السلطة ولذة البلاط والحكو؟؟؟ مات

السياسة وتشويه الصور والحقائق المشوهة وكرسي السلطة ولذة البلاط والحكو؟؟؟ مات

هل تسأم الشعوب ممن يحكمها؟ ملكاً كان أو أميراً أو رئيساً، لمجرد أنه بقي متمسكا بمقاليد الحكم والسلطة، عاضاً عليها بالنواجذ؟ لماذا لا تتكرّر ظاهرة نيلسون مانديلا في محيطنا العربي؟ فقد أصبح زعيماً عالمياً ونال ما لم يكن له ليناله، لو بقي على سدة الحكم طوال حياته، إذ ختار لنفسه أن يتربع على عرشٍ هو أرقى وأسمى من هذا العرش الذي كان سيفارقه غصباً أو اختياراً، ولو بعد حين.

كثيراً ما نسمع شعارات الشورى والديمقراطية تملأ دنيانا ضجيجاً، لكننا نفتقدها في كل شيء من حولنا، فهي شعارات خاوية، لا تمثل الواقع الذي نعايشه. بل كأن لسان حال حكامنا يقول: من الكرسي إلى القبر ولا أبالي. هل يدرك هؤلاء الزعماء أن الشعوب تمل وتسأم بطبيعتها البشرية التي تحب التغيير؟ لماذا تشيخ الكراسي بهؤلاء، وتشكو من وطأتهم وتئن من طول الجلوس، وهم في سُبات عميق! ولسان حالهم يستلذ بترديد “ما علمت لكم من حاكم غيري”. يولد الطفل في بلادنا ويترعرع، ويدرس كل المراحل الدراسية إلى ما بعد الجامعة، وينخرط في دولاب العمل، ويرى العالم يتغير، والحكام يتعاقبون على إدارة البلاد في كل الدنيا، بينما يلازمه وجه حاكم واحد طوال حياته، لا يفتأ يطل عليه في كل يوم، مهيمناً على أجهزة الإعلام عبر أخبار روتينية مملة، يكاد المتلقي أن يقرأها قبل حدوثها، ويعرف تعليقات أصحاب الشأن عليها. أليس هذا، في حد ذاته، مملاً ورتيباً حد الضجر؟

تريد الشعوب من يعبِّر عنها، ويواكب متطلباتها، ومتغيرات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لا من يجثم فوق صدورها بقوة السلاح وأجهزة الأمن والمخابرات التي تبذل قصارى ما في وسعها لتوطيد الحكم والسلطة وإحكام القبضة الأمنية على كل مفاصل الدولة، والضرب بيد من حديد لكل من يخالف ما يهواه السلطان. تغيرت الصورة النمطية للحاكم الفرد الذي عركته السنين، وهو يكابد الوعكات الصحية التي أوهنت جسده. لِمَ يصر هؤلاء الحكام على غرز أنيابهم في خاصرة الأوطان، وهم يطوّقونها ويزأرون كما يزأر الأسد وهو مجهز على فريسته؟ أمَا يتعظون بمصير أندادهم، وأمثالهم الذين كانوا يوهمون أنفسهم بالبقاء، حتى انقلبت عليهم شعوبهم، وأخرجتهم من تحت الأرض، وهرب من نجا منهم بجسده وحوكم من حوكم منهم، وهو يُساق إلى المحاكمة على سريره!؟ لماذا كل هذا التعنت وجنون السلطة والتسلط والاستبداد على الشعوب؟ العاقل من اتعظ بغيره، والسعيد من أراه الله مآلات الأمور في غيره، فنأى بنفسه عن مرابض الفتن.

نحن اليوم في عالم مفتوح، يرى الشباب العربي تجدّد الدماء في أجهزة الدول الغربية، وفي وزاراتها حتى أعلى هرمية الحكم والسلطات، شباب يواكبون ديناميكية التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية والمدنية، ويمثلون تطلعات الأجيال القادمة في عالمٍ تمضي خُطاه بتسارع يسابق البرق على كل الأصعدة.

درسنا، ونحن في بواكير صبانا، قصة لغرابٍ وثعلب، الغراب في أعلى الشجرة ممسكٌ بمنقاره قطعة جبن. وفي هذه الأثناء، يمر الثعلب وقد أنهكه الجوع، فيرى قطعة الجبن في منقار الغراب الطيب، ولكن كيف السبيل إلى قطعة الجبن والشجرة عالية؟ يفكر الثعلب في حيلة فتسوقه إلى خداع الغراب، فيقول له: غنِ لي بصوتك الجميل، فإنه يروق لي، وأنا سأرقص لك، فينخدع الغراب، فيفتح منقاره ليغني فتسقط قطعة الجبن، ويتلقاها الثعلب ويفر. والطرافة أن الثعلب اليوم حينما يقول للغراب: غنِ لي، يجيبه الغراب: لم أعد ذاك الغراب الذي تعرفه، فقد تغير الزمن، وعلمتني الأيام. لم تعد الأجيال هي الأجيال، فقد طرأت تغييرات كبيرة في الفكر والثقافة والعلوم، وفُتحت أبواب المعرفة والاطلاع على مصراعيها أمام الجميع.

أثبتت لنا الأيام أن شهوة السلطة لا تدانيها أي شهوة، لا يضعفها وهن الجسد، ولو كان يُحمل على كرسي متحرّك، ولا اشتعال الشيب وذبول الوجه وخرائط التجاعيد. ألهذا الحد هي فاتنة هذه السلطة؟ ألهذه الدرجة يغري بريقها ويأخذ بالألباب؟

 

وهل يمكن للسياسة أن تقوم دون استناد إلى الأخلاق والقيم؟ وهل من الممكن “للعقل النظري” أو “العقل المجرد” أن يتحكم في “الغريزة ” فتنشأ “المدينة” التي تتحقق فيها “الفضيلة”؟ أم إن السياسة بطبعها مجال تضارب للمصالح المادية وتحقيق الشهوات المعنوية، ومنها شهوة الجاه والسلطة وغريزة التسلط والهيمنة وتحقيق تبعية المستضعفين؟

ثم ألا يفيد الاستقراء للتجارب الإنسانية بأنه لولا قدر من الالتزام المبدئي بقيم مُثلى كالانتصار للعدل والمساواة واليقين بإمكان تحقيق مجتمعات خالية -أو تكاد- من الظلم والتمييز والقهر عاجلا أو آجلا، مجتمعات تنعم بالحربة والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وقيم التجرد والتضحية بالنفس والمال والحريّة والحق في العيش داخل الأوطان؛ لولا ذلك كله لما كانت هناك سياسة وعمران سياسي وإنساني ولتحول الإنسان ذئبا يفترس أخاه الإنسان؟

وكذلك لولا أن مغانم السلطة وتحقيق شهوة السلطة -مهما يكن حجمها ونصيب من تصدى للمسؤولية العامة منها- لا يمكن أن تعوض ما فات من العمر والمكاسب في دروب النضال السياسي؟ وأنه لولا ذلك لانهارت حركات مقاومة الظلم والاستعمار والاستبداد وساد حكم الغاب؟ أم إن السياسة في طبيعتها غير أخلاقية وتتقلب مع المصلحة وجودا وعدما؟ هل الأخلاق ضرورة للسياسة أم إنهما ضدان لا يجتمعان؟ وحيثما حضرت الأولى غابت الثانية؟

أم إنه لا غنى للثانية عن الأولى؟ وأن فساد السياسة لا يكون إلا من جهة فساد الأخلاق وضعف “العقل العملي الأخلاقي”؟ وأن العقل النظري أو العقل المجرد وحده لا يكفي معتمَدا في الإصلاح؟ وحيث إن هذه الفرضية الثانية تبدو هي الأقرب للواقع، وهو ما تدل عليه القرائن والأدلة العقلية والنقلية والتجربة الإنسانية؛ فهناك حاجة لإعادة تأكيد حاجة السياسة إلى الالتزام الأخلاقي.

تكمن قيمة القيم والأخلاق التي هي ناتج تنشئة اجتماعية تكون أصولها في الغالب دينية، حيث إن الدين -الذي يرجع أصله إلى الوحي- اختصر على الإنسانية مسافات طويلة، كان عليها أن تقطعها قبل أن تكتشف -بالعقل والحكمة المتراكمة- المبادئَ العامة للنظام الأخلاقي

من حكم الله في كونه وفي طبائع الناس وطبائع العمران أن الله قد غرس في الكائن البشري عددا من الغرائز القوية والمتجذرة، والتي بدونها ما كان هناك اجتماع ولا استمرار للنوع والاجتماع البشرييْن، حيث إن التأمل في التكوين البشري يشير إلى عدة غرائز متأصلة فيه:

ـ غريزة الجنس والولد أو “شهوة النساء” بالتعبير القرآني؛ إذ هي غريزة فطرية وجامحة، وهي من الدوافع أو الغرائز الأولية التي تشترك فيها الكائنات الحية وتنجذب إليها انجذابا، وهي عنوان للحياة واستمرار النوع الإنساني.

ـ شهوة حب التملك التي تتجاوز سطوتها حصول الإنسان على ما به يضمن قوت يومه ومعاشه، إذ إنها شهوة لا تنقضي مهما تملّك الإنسان كما ورد في الحديث الصحيح: “عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ولا أَدري أشَيءٌ أُنزِل أمْ كان يقولُه: لو أنَّ لابنِ آدَمَ -وقال حَجَّاجٌ: لو كان لابنِ آدَمَ- واديانِ مِن مالٍ لَتَمنَّى واديًا ثالثًا، ولا يَمْلأُ جَوفَ ابنِ آدَمَ إلَّا الترابُ، ويَتوبُ اللهُ على مَن تابَ”.

ـ شهوة الاعتداد بالذات والتمركز حول الأنا: وهي نزعة تمثل مرحلة طبيعية في الطفولة البشرية، مرحلة طبيعية لأنها تسهم في اكتشاف الذات، ثم بعد ذلك في اكتشاف الآخرين، باعتبارها تمكّن من الانتقال إلى الاندماج في الجماعة وإدراك الذات إدراكا جماعيا وتنسيب حريتها وحركيتها، مما يسهم في الوعي بالآخر والبعد الاجتماعي والثقافي باعتباره بعدا أساسيا في التكوين الإنساني، وهو يسهم في بداية تكون الضمير الأخلاقي وتشكل القيم التي لا تعني في نهاية المطاف أن الأنا لا توجد وحدها، بل تكمن في العلاقة بكيانات إنسانية.

من هنا تكمن قيمة القيم والأخلاق التي هي ناتج تنشئة اجتماعية تكون أصولها في الغالب دينية، حيث إن الدين -الذي يرجع أصله إلى الوحي- اختصر على الإنسانية مسافات طويلة، كان عليها أن تقطعها قبل أن تكتشف -بالعقل والحكمة المتراكمة- المبادئَ العامة للنظام الأخلاقي.

ويمكن استجماع أمهات أخلاق الإصلاح في أربعة أخلاق جامعة تُعتبر أساس كل عمل إصلاحي جماعي ولازمة لاستمرار العمران البشري، ويمكن استنباطها من حديث ثعلبة الخُشَني رضي الله عنه، الذي أشار إلى أخلاق الإصلاح الأساسية التي بدونها تتعطل الوظيفة الإصلاحية، وفي نفس الوقت إلى نواقصه التي بانتشارها تصبح “الجماعة الإصلاحية” غير مؤهلة لذلك.

فعن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخُشَني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسَكم لا يضرُّكم من ضَلَّ إذا اهْتدَيتُم)، قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا! سألتُ عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (بل ائْتَمِروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعاً، وهوًى مُتَّبَعاً، ودُنيا مُؤْثَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأْيٍ برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك ودعْ العوامَّ).

وهذا الحديث يُبين أن مسؤولية الإصلاح تبقى قائمة، وليس كما فهم الصحابي السائل من الآية، أي أن عليه فقط الاعتناء بخاصة نفسه ويترك وظيفة الدعوة إلى الإصلاح؛ فالحديث النبوي يبيّن أنه حين تفتقد الجماعة الإصلاحية الشروط الأخلاقية الأساس لقيامها بوظيفتها فإنه تنتفي شروط قيام عمل إصلاحي جماعي، ولكن -حتى وهي في هذه الحالة- تبقى هناك مسؤولية على الإنسان الفرد، وأنه لا يجوز له أن يتذرع بهيمنة الفساد لكي ينسحب من الاضطلاع بمسؤوليته تجاه مجتمعه.

ناهيك عن أن يتحول إلى مطبِّع مع الفساد ومتساكن معه، فأضعف الإيمان أن يظل مقاوِما في فكره ونفسه مع الفساد، وألا يتصالح معه حين تنعدم الحدود الدنيا لعمل إصلاحي جماعي، ولشروطه الأساسية؛ أي حين تتغلب شروط كابحة للإصلاح ومتواطئة مع الفساد.

انطلاقا من مبدأ المسؤولية ومبدأ الحرية الإنسانية تلقاء جميع الحتميات والإكراهات الخارجية؛ أقرّ الإسلام أن قيام الفرد بالواجب أمرٌ مستقل عن وضعه الحقوقي. ذلك أن المطالبة بالحقوق إذا كانت أمرا مشروعا فهي مطلوبة ولو أدى ذلك إلى التضحية بالنفس، حيث يُعتبر من قُتل دون ماله شهيدا ومن قُتل دون عرضه شهيدا؛ كما ورد في الحديث النبوي الشريف

وهنا تبرز مكانة العامل الأخلاقي باعتباره مُعطًى إنسانيا يرتبط بالفرد وكينونته وإنسانيته، وإنه مهما تواطأ المجتمع وقواه الاقتصادية والسياسية وتقاليده الاجتماعية ومصالحه الاقتصادية مع الفساد، فإن الإنسان من موقع مسؤوليته الأخلاقية يبقى مسؤولا، كما في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)؛ (سورة النساء/ الآية: 97).

البذل والإنفاق بالمعنى الواسع للإنفاق، أي الإنفاق من النفس ومن المال وعدم طاعة الشُّحّ (الشُّحّ بالمشاعر والشُّحّ بالخير والشُّحّ بالوقت والفكر) لا يعالجه إلا إنفاق دون حدود أو جهاد بمعناه الواسع، وهو ما ورد التعبير عنه في القرآن الكريم بـ”الجهاد بالنفس والمال” في سبيل الله، أي عطاء دون انتظار مقابل، عطاء يصل إلى حد التضحية بالنفس التي تعتبر أقصى درجات البذل وعنوانه البارز.

كما أنها الدليل الحي على أحقية الفكرة أو الرسالة الإصلاحية وصدق حاملها في الدعوة إليها، بدليل استعداده للذهاب بعيدا في إثبات ذلك بما لا يدع جدلا أو مجالا لمتوهِّم بأن صاحبها قد يكون طالبا لأغراض دنيوية، أو طامعا في مصالح مادية أو نفسية طارئة؛ وهو ما تأكد في دعوات الأنبياء الذين كانوا يصرحون ويعلنون بكل وضوح: (قل لا أسالكم عليه أجراً إلا المودّةَ في القُربَى)؛ (سورة الشورى/ الآية: 23).

وانطلاقا من مبدأ المسؤولية ومبدأ الحرية الإنسانية تلقاء جميع الحتميات والإكراهات الخارجية؛ أقرّ الإسلام أن قيام الفرد بالواجب أمرٌ مستقل عن وضعه الحقوقي. ذلك أن المطالبة بالحقوق إذا كانت أمرا مشروعا فهي مطلوبة ولو أدى ذلك إلى التضحية بالنفس، حيث يُعتبر من قُتل دون ماله شهيدا ومن قُتل دون عرضه شهيدا؛ كما ورد في الحديث النبوي الشريف.

وفي المقابل اعتبر الإسلام أن تضييع الحقوق واغتصابها والاعتداء عليها من قبل الآخرين لا ينهض مبررا للتخلي عن القيام بالواجبات، إذ القيام بالواجبات يأتي قبل المطالبة بالحقوق. فهناك جدلية وقاعدة مفادها أن واجباتي هي حقوق الآخرين، وأن حقوقي هي واجبات الآخرين، والإخلال في القيام بالواجبات تحت ذريعة ضياع الحقوق يجعل صاحبه متساويا من الناحية الأخلاقية مع ظالمه ومماثلا لجلاده.

وهو ملمح دقيق في البعد الأخلاقي لعملية الإصلاح، ومن افتقد هذا البعد فهو ليس مؤهلا للإصلاح، بل العكس من ذلك: إنه مشروع مستبد أو مستبد بالقوة، حتى ولو رفع شعار ولافتة وشارة الانتماء إلى معسكر المستضعفين والناصحين. فعن ابن مَسْعُودٍ -رَضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: “إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا”. قُلْنَا: فَمَا تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ؟ قَالَ: “تُؤَدُّونَ إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي لَكُمْ”.

وفي ذلك ملمح آخر مفاده أن النضال لا يقوم فقط بالدفاع عن الحقوق الخاصة، وإن كان هذا أمرا مشروعا؛ بل يقوم بالدفاع عن قضية أكبر من قضايا الأفراد، بل قد تكون على حسابها أحيانا، وهو معنى الإيثار الوارد في قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)؛ (سورة البقرة/ الآية: 273). فأداء الحقوق والقيام بالواجبات وتجاوز ذلك إلى مرتبة الإيثار ثلاثيةٌ ذهبية أساسية لازمة في عملية الإصلاح.

واليوم تُقدِّم كثير من الأنانيات الفردية نفسها على أنها مشاريع إصلاحية، كما تُقدَّم عدد من “المقاولات الانتخابية” على أنها أحزاب سياسية، وعدد من الدكاكين الجمعوية المفتوحة على أنها مشاريع مدنية، وحقيقة الأمر أنها ليست سوى أحابيل لالتهام المال العام القادم من دعم البلديات والمجالس المنتخبة، أو من الدعم الحكومي أو من التمويل الأجنبي.

اليوم تُقدِّم كثير من الأنانيات الفردية نفسها على أنها مشاريع إصلاحية، كما تُقدَّم عدد من “المقاولات الانتخابية” على أنها أحزاب سياسية، وعدد من الدكاكين الجمعوية المفتوحة على أنها مشاريع مدنية، وحقيقة الأمر أنها ليست سوى أحابيل لالتهام المال العام القادم من دعم البلديات والمجالس المنتخبة، أو من الدعم الحكومي أو من التمويل الأجنبي

ومما يدل على أن هذا النمط من “التنظيمات” هو مجرد مشاريع فردية، رغم تغنيها بالدفاع عن الشعب، ووقوفها إلى جانب المستضعفين وحقوقهم، وتقديم بعضها الآخر لبعض المطالب الفئوية على أنها مطالب اجتماعية؛ هو ما تعانيه من صراعات وانقسامات لا تنتهي. وليس المقصود هنا نزع الشرعية عن المطالب الفئوية الموضوعية والمعقولة والقابلة للتحقيق.

لكن المقصود هو تلك المطالب الفئوية التي لا تنظر إلى المصلحة إلا من خلال المنظور الفئوي الضيق، حتى ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامة، أو على حساب عدد من الفئات الأكثر تهميشا وتضررا، والتي ليس لها من القدرة الاحتجاجية والمعرفة بأهمية التنظيم والتعاضد للدفاع عن نفسها ومطالبها؛ وهو ما يعني أن الحق مرتبط بالمصلحة والقوة وليس بالعدل والعدالة أو التعاون والتضامن.

هذه الحالات والأمثلة كلها تعبير عن وعي زائف أو وعي شقي، لأنها تُعلي هواجس متمركزة حول الذات الفردية أو الفئوية فترفعها إلى مرتبة الحق المطلق. فالحق في هذه الحالة هو تحقيق المكاسب الشخصية، حتى ولو كانت على حساب حق الجماعة وحقوق من هم أكثر استضعافا وحاجة.

والنظر في واقعنا يكشف صورا كثيرة من هذا الوعي المزيف، والأخطر من ذلك أن ينطلي ذلك على بعض الشباب وبعض الفئات، وأن يروجوا لأطروحاته رغم أنهم من ضحاياه، وهو وعي شقي مزدوج، ومن اللازم كشفه وتسليط الضوء عليه. والأصل في ذلك ومصدر دخول البلاء عليه هو ضياع الأخلاق، ونقصد هنا أخلاق الإصلاح.

 

ولابد من الاشارة والاهتمام والتذكر بأنه ، …. لقد تشبّث العديد من السياسيين بالكذب والخداع، معتبرين أنهما “أكذوبة نبيلة” في مدينة أفلاطون، يتسلّقون من خلالهما سلّم الحقيقة، من أجل بلوغ مراتب المدينة الفاضلة، على حدّ زعمهم، وهو كذبٌ مركّب.

إنّ الاطّلاع على التراث الفكريّ العالميّ عموماً، أو الأوروبيّ على وجه الخصوص، وتحديداً مع انطلاقة الفلسفة اليونانيّة على يد روّادٍ أمثال بارمينيدس وإيمبيدوكليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، مروراً بعصر النّهضة وفلاسفة عصر الأنوار، أمثال كولوتشيو سالوتاتي وليوناردو بروني ونيكولو مكيافيللي ومارتن لوثر وجان بودين، وانتهاءً بأعمدة الفكر الحديث، أمثال جان جاك روسو ورينيه ديكارت وجورج هيغل وفرنسيس بيكون وإيمانويل كانط وفريدريك نيتشه، وغيرهم الكثير، يجعلنا ندرك أنّ الفلسفة حين تتّخذ من المنهج النقديّ وسيلةً للتفكير، فإنّها بذلك تسعى لقراءة الأشياء بمنظار جديد.

هذا الأمر، وإنْ كنّا قد رأيناه حاضراً في الفلسفة الحديثة، وتحديداً في فكر الفيلسوف كانط وأسلوبه، لكنّ الفيلسوف نيتشه، ومنْ خلال ما قدّمه، عدّه الكثيرون ناقداً للنقد ذاته، واعتبروا أنّ المنهج الذي رسمه يحمل أعلى مستويات المعرفة التي امتزجت مع الواقع الحياتي، لكونها الباعثة للقيم، وفيها تتجذّر الحقائق.

لذلك، نستطيع القول إنّ القيم والمثل العليا تشهد تراجعاً، متى ما كان الواقع الحياتيّ المعيش في طريقه نحو الانحطاط والتردّي، ليكون الحسّ النقدي واجب التواجد، من أجل تقويم الاعوجاج في الفكرة الفلسفية، وإيضاح ما التبس على العوام من الناس، وتنظيف ما أصاب الوعي الفكريّ من عفن الخداع في واحة الجهل والتّجهيل، فـ”لكلّ واحةٍ أصنامها”.

في هذا المقال، سنحاول الوقوف عند مفاهيم الكذب والخداع السياسي، انطلاقاً من أبعادها الفلسفيّة والنظريّة الإبستمولوجية، والعلاقة بين الكذب والخطأ والحقّ والصدق في حقل السياسة، وكيف أنّ الخرافة قد تنشأ وتترعرع ضمن الحدود والأبعاد الفاصلة بين الصدق والكذب، وأنّ الخداع اللّفظي أو الفعليّ في ميدان السياسة سيفضي إلى تزوير الحقيقة. كما أنّ الحقيقة قد تتحوّل بدورها إلى أداةٍ بيد المخادع، يستخدمها وقت شاء من أجل التمويه والتزييف، واختراع الأساطير، وصناعة التّجهيل، وتجذير الخرافة، وبناء الوعي الزائف.

الفكر الفلسفيّ توقّف يوماً ما عند “الأكذوبة النبيلة”، كما أسماها الفيلسوف اليوناني أفلاطون، حين قسم المجتمع في “المدينة الفاضلة” إلى 3 طبقات: الحكّام الذين اعتبر أنهم يمثّلون العقل، والفرسان الذين يمثّلون القوة، وعامة الناس الذين يمثّلون الشهوة.

واعتبر أنّ المدينة الفاضلة، التي يعدّ قوامها العدل والقانون، يكمن دوامها وسرّ بقائها في إقناع كلّ طبقة بعدم التدخّل في شؤون الطبقة الأخرى، إذ انتهج لأجل ذلك ما أسماه “الأكذوبة النبيلة”. وقد استعان بالبعد الغيبي في هذا التصنيف، مدّعياً أنّ الله تعالى هو الذي خلقهم على هذه الشاكلة!

لقد تشبّث العديد من السياسيين بالكذب والخداع، معتبرين أنهما “أكذوبة نبيلة” في مدينة أفلاطون، يتسلّقون من خلالهما سلّم الحقيقة، من أجل بلوغ مراتب المدينة الفاضلة، على حدّ زعمهم، وهو كذبٌ مركّب.

أصبحنا اليوم نعيش في زمن التفاهة، حيث أصبحت الخرافة منهجاً، وغدا التّجهيل فنّاً يتسابق إليه الجهّال للفوز بكرسي السياسة، فخرجوا إلينا بعلومٍ وفنونٍ وأفكارٍ وممارساتٍ خالية من القيم والأخلاق، بعيدة عن ثوابت الدين.

نعم، أصبحت السياسة اليوم فنّ الممكن، فلا مكان للأخلاق في نظر ميكافيللي، بل إنّ العكس بات هو الصحيح، فالسلطة والحكم والعلاقات الدبلوماسية ترفع شعار الصدق في العلن، لكنّها تنتهج الكذب والغشّ والخداع وسيلة، فلا مكان للحقيقة في عالم السياسة، حتّى نُقل عن السياسي والدبلوماسي الشهير هنري ووتون، وهو من أعلام السياسة البريطانية في القرن السابع عشر، في معرض وصفه للدبلوماسية، قوله: “رجل أمين أرسل إلى الخارج، ليكذب من أجل مصلحة دولته”. واعتقد أتباع الأميركي اليهودي من أصل ألماني ليو شتراوس، وهو من المحافظين الجدد، أنّ “الجماهير لا يمكن أن تُساس وتُحكم إلا بالكذب”.

لقد أصبح السياسيون اليوم يسكنون في قصور الغشّ والخداع، ويسبحون في بحر الكذب والتزييف، ويتنفّسون هواء الأطماع والشهوات، ظنّاً منهم أنّهم حمّال فلسفة وصنّاع دولة، وقد تناسوا – يا لجهلهم! – أنّ أهل الفكر يعملون انطلاقاً من منظور نقديّ بحت، وأنّهم بذلك يسعون لتثبيت صرح الحقيقة. أمّا تجّار السياسة، فإن منهم منْ يسرح بالفكر والفلسفة خدمةً لقتل الحقيقة، وشتّان ما بين هذا وذاك!

كيف يمكن لسياسة الكذب أن تنتج المثُل حين تكون المعرفة مشوّهة!؟ إنَّ كانط وما حمله من إمكانية الأحكام التأليفية القبليّة في فلسفته النظريّة، لا يمكنه إنتاج المثل التي تقود الحياة وتقدّس الحقيقة، ولا يستطيع شخص مثل أفلاطون بناء المدينة الفاضلة بأساس الأكذوبة النبيلة، أليست هي في الواقع سجنٌ للعقل الفلسفي والفكر البنّاء؟

حين تكون السياسة مبنيّة على أساس المثل والقيم، فإنّها تكون قد تسلّحت بالمعرفة أمام كلّ ما يهدّد الحياة، ويسحق العقل، ويؤدلج ضمائر الناس، ويحوّلهم إلى قطيع من الأغنام، فتكون الدولة والنظام أشبه بالغابة، حيث الوحوش الكاسرة، والقويّ فيها لا يبقي على الضّعيف.

إنّ الَّذي ينتهج سياسة الغدر والكذب والخداع هو في الحقيقة يرفض منهج الحياة التي تقوم على أساس المعرفة؛ تلك التي لا يكون هناك مشروع للحياة من دونها، بلْ إنّه في حقيقته لا يمتلك إرادة المعرفة لبلوغ الحقيقة وتفرّعاتها وانعكاساتها على الحياة.

إنّ السياسيّ الجاهل هو ذلك الَّذي ينتهج الكذب ويمتهن الغشّ، وهو ليس إنسان الحقّ. لذلك فهو بعيدٌ عن الحقيقة. أمّا السياسيّ العارف، فهو الَّذي يقدّس المعرفة ويحملها فكراً وسلوكاً، فهو إذاً يعطي ولا يأخذ، ويضحّي ولا يغدر. إنّه في سير دؤوب طلباً للحقيقة وتثبيتاً لأركانها.

لقد سعى سياسيو الأنظمة الشمولية إلى التلاعب بالواقع كما يشاؤون، فهم يحرّفون الحقيقة وفق ما تقتضيه مصالحهم، ويجزّئونها، ويتلاعبون بأبعادها، وينْظرون إليها من نافذة المنفعة والمصلحة، ولا وجود للحقيقة في منهجهم وسلوكهم.

لقد تزيّفت الحقيقة، وتحوّلت إلى أسطورة يوظّفها السياسيون، ويغلّفونها بغلاف قوميّ أو ديني، ويعرضونها بضاعةً في سوق الكذب والخداع، ويستعينون بلغة الخطابة وفنون المراوغة والتضليل، ليستميلوا بها مشاعر الأفراد والجماعات وعقولهم، من أجل إضفاء المشروعيّة على برامجهم ومخططاتهم التسلطيّة.

وقد تحوّل الكذب والخداع والغشّ والمكر والغدر إلى منهج سلوكي وثقافة يومية يمارسها سياسيو التزوير، حفاظاً على مصالحهم ومنافعهم، وتثبيتاً لوجودهم. وقد لا يعلمون أنّ عاقبة هذا المنهج والأسلوب هي التخلّف والدمار والضعف وعدم الاستقرار والضياع الأمني والاقتصادي.

إنّ الكذب ليس فعلاً نبيلاً، والخداع لا يمكن أن يكون وسيلة لغايات وأهداف سياسيّة بنّاءة تحمل في طيّاتها برامج تنمويّة وخططاً مؤسَّساتيّة تعمل من أجل بناء الدولة، كما أنّ أهل السّلطة، مهما أوتوا من قوّة، لا يمكنهم، بأي حال من الأحوال، طمس الحقائق الواقعيَّة وتشويه صورها، حين يكون هناك رأي صادق تحمله أمّةٌ واعية شجاعة، تقدّس المعرفة، وتمتلك الإرادة، ولا تنخدع بالحقائق المشوّهة..