22 ديسمبر، 2024 8:29 م

السياسة في العراق .. معلب خداع لا ملعب أصلاح

السياسة في العراق .. معلب خداع لا ملعب أصلاح

لا يخفى على احد ان كل تخصص او نشاط معين له سياسة خاصة به تتمثل بالخطط والاستراتيجيات وطرق الوصول لتعظيم منافع ذلك النشاط وتدنية كلفه و مضاره ، فنستخدم مصطلح ( بوليسي ) مثلا ،السياسة الاقتصادية Economic Policy ، والسياسة الصحية Health Policy والسياسة التعليمية Education Policy وهكذا، الا السياسة التي هي سياسة السياسيين ، فتسمى (Politics) و (البوليتك) هذه أفضل من ترجمها العراقيون منذ دخول الإنكليز الى العراق في مطلع عشرينيات القرن المنصرم، حيث يسمع العامة كلمة ( بوليتك) لكل فعل سياسي مخادع وكاذب ومماطل ومتسوف ومتوعد ومتنصل فدرج العراقيون على تسميتها (بلتيقة) والبلتيقة تعني بالمرادف العامي (الكلاوات) ولذلك صار تعريف السياسة في العراق هو اجادة فن (البلتيقة)، وهي مهنة من لا مهنة له، مهنة تلوثك بالخطيئة مهما كنت صادقاً او وطنياً او حريصاً لكثرة ما يمارس من عهر سياسي بين الخصوم والمتنافسين. كما درج الحال على تسميتها فن الممكن، والممكن عندما يصبح الوصول اليه معيار للتنافس تصبح كل الطرق مباحة ومتاحة وتسوغ بمسوغات شتى لتحقيق الممكن، وبمجرد الوصول الى ممكن معين سيكون هنالك ممكن اخر مستهدف يحتاج الى أساليب ملتوية جديدة ويحتاج الى قادة افذاذ في (البلتيقة) للوصول أليه، والطامة الكبرى، عندما تجلببت السياسة برداء الدين، واقصد السياسة بالمفهوم العراقي الموروث، حيث تزوجت (البلتيقة) زواجاً عابراً مع (الحيل الشرعية) و(لزوم ما لا يلزم) و(دفع الضرر) و(شوكة الإسلام) ( والتورية ) و(مجهول المالك ) وغيرها من المصطلحات والمفاهيم لتعزز من ظاهرة (الدين البديل) دين الطقوس والعواطف لا دين المعاملات، دين أدوات الرياء لادين أدوات العمل لرضا الله سبحانه، وتجد الكثير ممن كان زاهدا عابدا نزيها قبل
ان يوضعوا في جريان السلطة والمال قد انقلبوا الى ابطال في البلتيقات وسقطوا في ممارسات معاملاتية سيئة وتكسبوا بالحرام، حتى نمت طبقة كبيرة جعلت الدين لعق على السنتهم، واصبحوا يمارسون كل أنواع التخليف المجتمعي للإبقاء على المجتمع متخلف منقاد، ينخدع بسهولة بأدوات الرياء التي يظهروها.
لقد كنت اول من كتب في الإصلاح الاقتصادي في العراق منذ عام 2008 وطبعت الأمم المتحدة كتابي بهذا العنوان وأصبح مرجعاً للإصلاح منذ عام 2009 وخرجنا بخارطة طريق إصلاحية لكل محور وصادق عليها مجلس الوزراء في عام 2010، ثم منعونا من تنفيذ أي منها، لماذا؟ لان القائد الضرورة في حينه انشغل بنقل التنافس والعمل من ملعب الاقتصاد والبناء والاعمار والاستثمار الى ملعب (السياسة)، وكان ملعباً قذراً تفوح منه روائح التآمر والخدع والبلتيقات والملفات الصحيحة منها والملفقة ، وصار الهدف الأول الحفاظ على العرش بدلاً من بناء الدولة والمؤسسات الكفوءة ، فكما قالها صدام في الثمانينات (كل شيء من اجل المعركة) وعسكر الاقتصاد ودمره ، وبعد التغيير قالوها (كل شيء من اجل الكرسي) فسيسوأ الاقتصاد ودمروه اكثر، وهو غباء مطلق ، لأنهم لو نجحوا في الاقتصاد والبناء لأصبح الكرسي هو من يسعى إليهم ومنحوا الثقة لأكثر من ولاية، ولكنهم أهملوا كل ذلك وتمسكوا بالكرسي الذي أسقط البلد في أزمات اقتصادية وجعل كرسيهم يترنح.
شعبي المسكين أمام تلك البلتيقات كانت أفواهه تكمم بارضاءات وقتية(خداع)، لان الإصلاح اي إصلاح هو دواء مر، ولابد ان تكون له اعراض جانبية على القائد ان يتحملها في الأمد القصير ليجني ثمارها في الأمد المتوسط والطويل، ولكن الارضاءات الوقتية التي تحقق لهم أصوات انتخابية دامت طويلا ، ومورست كل البلتيقات ، خداع التعيين وخداع شراء الذمم وتوزيع المال لأغراض استهلاكية وتوزيع سندات الاراضي الزائفة وتسويق المظلومات المذهبية بصورة مبتذلة ، وشراء ذمم ناس مؤثرين (مجالس اسناد، شيوخ عشائر، فعاليات دينية) ، كل ذلك تحت غطاء موازنات متخمة بإيرادات النفط، استمر مسلسل الارضاءات الوقتية والبلتيقات ، حتى اصبحنا في الأمد الطويل ، حيث مضت
(13 سنة) على النظام الجديد فيه محرك الديمقراطية الذي يفترض ان يعمل لخلق الكفاءة وإزاحة غير الكفوء جعلوه يعمل (بالمقلوب) وصار الجمهور المستغفل يعيد انتاج الفاشلين والمخادعين ، وصار من مصلحة النظام الإبقاء على التخلف، وصار الفساد الذي امتد الى جلباب الدين مشرعنا وشاعت ثقافة الرشا ونسب العمولة من المشاريع، وصارت هنالك مشاريع وهمية لا تنفذ ، لأنهم ليسوا حتى لصوص منصفين فلو سرقوا بإنصاف لكان هنالك تنمية في العراق اليوم، لقد صرنا في الأمد البعيد ولم نبني البلد، تحولت الدولة الى مؤسسة خيرية توزع فتات لجمهور من الايتام لكسب الولاءات، وهنالك معدل نمو سكاني في العراق 3%، أي ان هنالك (800 الف) شاب وشابة يدخلون الى سوق العمل كل سنة، والفرص التي تخلقها الدولة في مؤسساتها هي فقط في الأجهزة الأمنية لمحاربة الإرهاب ، وبعض التعيينات في الصحة والتربية، وأصبحت المؤسسات متخمة بتنابل الموظفين وصارت إنتاجية الموظف لا تتعدى ( 17 دقيقة في اليوم)، وفي بلد كهذا ليس فيه احترام للزمن وليس فيه احترام لأي حسابات( كلفة / عائد) فانه ذاهب الى الدمار، كما ان فرص العمل في القطاع الخاص هي الأخرى مؤصدة لان الدولة لازالت مهيمنة على كل شيء ، ولم تزيح العقبات أمام الاستثمار الخاص ، بل على العكس ، ومع كل هذه الفوضى والتحديات ذهب الغطاء النفطي الذي كان يستر العورات بالتراجع الحاد لأسعار النفط ، ذهبت الوفرة التي بعثرت بعبث شديد في سنوات الرخاء، توقفت الحكومة عن توزيع الأموال، الرواتب خفضت، هنالك 7 مليون شخص يتقاضون رواتب بحدود 3.5 مليار$ شهرياً وصار لزاماً على الحكومة العودة الى الإصلاح الاقتصادي ، ولان الإصلاح تأخر كثيراً وصارت اعبائه اكبر ، ذهب الساسة الى بعض الإصلاحات الإدارية التي يمكن ان تكون محمودة العواقب وتعطي نتائج إيجابية اذا صدقت النوايا ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، ثم تم تخفيض رواتب الدرجات العليا وهو اجراء صحيح على اعتبار ان هنالك غلو في الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها ، ووصل الامر الى حد تخفيض رواتب السلم الوظيفي وتبعه مزيد من الجبايات ورفع لأسعار
الخدمات والغرامات وهذه أمور تقشفية لابد منها ، الا إنها لن تكون بالضرورة محمودة العواقب كون الاثار الانكماشية لها ستكون كبيرة وفرص العمل على قلتها تتراجع بشكل مخيف خاصة وان القطاع الخاص بقي على مدى (13 سنة) مقاول لدى الحكومة بفضل العقلية الحكومية لدى اغلب المسؤولين، فضلاً عن الفشل الذريع الذي منيت به هيئات الاستثمار وعجزها التام عن خلق بيئة أعمال جاذبة وتقديم التسهيلات المطلوبة فضلاً عن حالات الفساد الكبيرة والمحاباة.
امام هذه الصورة كانت مطالب الجمهور هي اصلاح اقتصادي بالدرجة الأولى، وقد قلت للسياسيين حكمة شفاهاً أجد من الضرورة توثيقها هنا (إذا تعرض البلد لازمة أمنية فأن الجمهور سوف يصطف مع الحكومة حتى لو كانت الحكومة سيئة، وإذا تعرض البلد لازمة اقتصادية فأن الجمهور سوف يخرج على الحكومة حتى لو كانت الحكومة صالحة) ، وفي عام 2011 مسكت يد القائد وقلت يا دولة الرئيس اقسم عليك بالحسين عليه السلام ان تلتفت الى الملف الاقتصادي لانه سيكون سبب فناء نظامنا الجديد ، فاعتذر قائلا وهو يبتسم ابتسامة لم افهمها (صعبة ما اكدر) وكان خلفي ضابط كبير بقيافة استعراضية أدى له تحية عسكرية مهيبة فانتفخ الزعيم أكثر وزاد حقده علية أكثر لاني نبهته إلى الثقب الكبير والذي يتسع في السفينة التي هو ربانها.
واليوم نحن امام ازمة اقتصادية بامتياز، ولان السياسيين غير قادرين على حلها، وغير متعاونين في حلها ، ولا يسمعوا ولا يسمحوا للمختصين بعلاجها ، أخذوا بعضهم الى ملعب أخر يجيدوه ، انه ملعب السياسة وأوجدوا (كرة نار) أسموها حكومة التكنوقراط وأوجدوا تعريف عراقي خاطئ للتكنوقراط عندما ربطوا الأمر بالانتماء ، وصاروا يتقاذفون الكرة فيما بينهم لخداع الجمهور الذي جلبوه الى هذا الملعب وصرف نظره إلى اتجاه آخر الى المباراة السياسية فقط ، فمنذ أكثر من شهر وكل وسائل الاعلام والأحزاب ومراكز الأبحاث والجمهور المخدوع ليس لديهم الا السجال والملاسنة والهتاف والتخييم والاعتصام والتظاهر، وتعاظمت المزايدات والكل يخدع الكل، لقد أتخمنا سياسة مجددا بعد ان ارتحنا
من تلك المناكفات قرابة عام ونصف في حكومة شفافة وهادئة حلمنا ان تشغلنا في عمل منتج.
أيها الساسة، أيها المختصون بعلم البلتيقات، كفاكم تجذفون بكل الاتجاهات لان السفينة لن تسير ، وإياكم والحَوَل السياسي او ( الخوط بصف الاستكان ) لان الجمهور يريد الأتي:
* تحرير ارض العراق من داعش وإعادة النازحين الى بيوتهم ، وقد هب الجمهور ليصطف معكم في هذه القضية المقدسة رغم كل تحفظاته عليكم.
* التخفيف من شدة الأزمة المالية عليه ومواجهة تراجع أسعار النفط ببدائل جيدة تحقق الهدف التمويلي والهدف الاجتماعي معاً.
* فرص عمل (خارج إطار الدولة ) للطاقات الشبابية التي لا تجد الا الانضواء تحت رايات شتى للقتال، او الانخراط في عصابات شتى للسلب والنهب، او الهجرة وتصبح لقمة لحيتان بحر ايجة.
* خدمات لائقة تقدم للجمهور ليعيشوا بكرامة.
* حمايتهم من مافيات الفساد والابتزاز عند مراجعة دوائر الدولة.
* محاكمة الفاسدين الذين أهدروا المال العام في سنوات الرخاء السابقة، لا ان يمتطي بعض هؤلاء صهوة الإصلاح ويعتصموا في البرلمان لتبيض سجلهم.
* احتضنوا المستثمرين ولا (تطفشوهم ) بالاجراءات والابتزازات ، كي تأتي رؤوس الأموال الهاربة من أفعالكم لتبني عراق نفخر به أمام العالم .
لقد بحت أصواتنا ونحن ننصحكم ، فهل تريدون للنخب ان تعتكف في بيوتها ، كما اعتكف العقلاء الراشدين من قبلهم، ويترك الملعب للمشجعين المهووسين والساسة الذين يخدعوهم يخربوه ببلتيقاتهم التي لا تنتهي.