” نحن لانبدأ بتشكيل حكومة ، بل ببناء دولة ” هذا ما ابتدأ به نوري المالكي خطابه الأول بعد حصوله على التكليف الرسمي لولاية ثانية ، ذلك يعني إن الرجل كان يدرك مقدار (الطوفان) من المشكلات التي تغرق حاضر العراق ، وبالتالي عليه أن يكون بمثابة (نوح ) ليبني فلكاً يحمل فيه العراق كلّه ، ومن ثم يقوده الى المستقبل حيث الخصب والنماء .
لكن ماذا لو لم تكن هناك ( حمامات) يرسلها للإستكشاف ؟ .
لايبدأ بناء الدولة الا بما يُرسم في العقول من رؤى تنظر الى الحاضر بعين المستقبل ،ذلك قول يحمل من البداهة بمقدار مايكتنفه من الصعوبات ، الأمر الذي يتطلب الخروج من عباءة الموجود حيث تنهك الدولة فيه مواردها إتكالاًعلى إقتصاد رعوي ( من الرعي ) ، الى فضاء الموعود ، حين تتحول البلاد الى إقتصاد إنتاجي حديث يستطيع إستثمار ما تهبه الطبيعة ومن ثم تنميته ، لا مجرد استهلاكه وهدره .
من خصائص الإقتصاد الرعوي ، انه يعتمد على ما تجود به الأرض من مراع تخضّر بعد مطر،مايعني الضنك في مواسم الجفاف واستنفاد المورد الذي يجعل الحياة ممكنة .
التخطيط الأساس للدولة المراد بناؤها ، كان يستهدف التركيزعلى زيادة ( مراعي) النفط ، من دون إهتمام مماثل بالقطاعات الإنتاجية الأخرى ( غير المستنفدة ) ، وأولى خطوات البناء الموعود، بدأت بإستحداث عشرات الآلاف من الوظائف الحكومية أضيفت الى ملايين الوظائف الفائضة عن الحاجة أصلاً ، ما يضيف أعباءاً جديدة على كاهل الدولة ، ويجعل الإدارة أكثر ترهّلاً وافتقاراً الى الكفاءة .
(راع وقطيع ) تلك كانت رؤية الدولة على مفهومها الإستبدادي القديم ، التي سادت في العراق منذ بدء تشكله ، ليس مهمّاً أين يقاد القطيع ، الى المرعى أم الى الحروب ، مادام الراعي يجيد العزف في المزمار، وهو المشهد الذي طالما وسم تاريخ العراق الحديث .
لكن ، ومع دخول البلاد عهد جديد ، يفترض أن يكون مغايراً لماسبقه ، ومن أهم تجسيدات المغاير فيه ، شكل بناء الدولة ووظيفتها ، لذا ينبغي والحالة هذه أن تتحول الدولة من مهنة الراعي الى وظيفة الإداري ، لكن الدولة واجهت الإختيارالأول والأصعب، أي الإستمرار فيما ألفه الناس وما تراكم في مخيلتهم وثقافتهم على حدّ سواء ( لادولة دون مراع ) لذا اقتضت المهمة الأولى ، البحث عن كيفية توفير المراعي وإدامتها كي يستمر( الرعايا ) في ارتيادها كما فعلوا دائماً ، فكان لزاماً إيجاد المزيد من الوظائف العامة ، لإطعام الأفواه وزيادة تعلقها في ( الراعي ) ومن ثم ضمان تجديد آخر للانماط ذاتها.
ان لكل شعب سلوكياته الحياتية المنبثقة من طبيعته المجتمعية ،المتأثرة بدورها ببيئته الجغرافية وموروثاته الفكرية والتاريخية ، وتلك مستمدّة في العادة من نتاجه الثقافي والإقتصادي التي يحدد بموجبها طرائق عيشه .
تلك هي المترابطات المتوالية التي تحكم حياة الشعوب بصفة عامة ، ولما كان العراقيون ، ونتيجة للسياسات التي إتبعتّها الأنظمة السابقة ، قد وقعوا بين آفتين : نهم الإستهلاك وقلّة الإنتاج ، ذلك لأنهم عانوا على إمتداد وجودهم ، من حصار عكسته الجغرافيا المحاطة بالصحارى القاحلة من جهة ، وبالجبال الوعرة من جهة أخرى ، حيث تزداد في الأرض السهلية نسبة التبخر وتقلّ نسبة الرطوبة لخلو العراق من المساحات البحرية ،
ولصعوبة التغلب على هذه الجغرافيا التي تحتاج الى جهود إستثنائية متواصلة ومنهكة ، مال العراقيون تدريجياً الى التسليم بقدرهم والإتكال من ثم على ما يقدّمه الآخرون ، حيث المنتوجات أقلّ سعراً وأكثر جودة مما تمنحه بلادهم ، التي تحولت بدورها من منبت الخصب ، الى أرض القحط .
وما زاد في تفاقم المشكلة ، ما شهده تجفيف الأهوارالتي كانت بمثابة مدّرات للغيوم والأمطار ، ثم شحة المياه في دجلة والفرات وما عكسته من تأثيرات على بيئة أصبحت مطمورة بالغبار .
كان هناك الكثير من المؤشرات التي تؤكد على استفحال ظاهرة الإستهلاك على حساب عقلية الإنتاج ، فقد كان العراقيون يعتمدون بشكل متزايد على المستورد من البضائع وإن من نوعيات رديئة ، في حين كان بأمكانهم صنع بضاعة مطابقة إن لم تكن أكثرجودة ، كما تحوّل معظم المصنعّين ، الى تجّارمستوردين بسبب عدم وجود المواد الأولية أو كلفة إنتاجها المرتفعة ، التي يجعلها تكسد أمام رغبة المستهلك بشراء المستورد ، لأناقة شكله ورخص ثمنه ، مايتغلب على الجودة والنوعية.
أما ظاهرة النزوح إلى المدن، وبالتالي ترك زراعة الأرض والإتجاه نحو الوظيفة الحكومية ، فقد زادت من تفاقم المشكلة ، خاصة مع توجهات الحكومة التي لم ترَ حلولاً للبطالة ، إلا باستحداث وظائف جديدة تجعل من المنتجين المفترضين ، متبطلين واقعاً ، وبالتالي مستهلكين لمواد يتم استيرادها من الخارج ، بما يعني ذلك من إستنزاف ، ليس في موارد الدولة وحسب ، بل في التأثيرات العكسية على سياساتها ومقدار التدخل في شؤونها ، وهكذا يبقى العراق يدور في حلقة مفرغة من اللاجدوى .
بناء الدولة الحديثة يتطلب في الوقت عينه ، بناء مرتكزاتها المستقبلية التي قد تستوجب طروحات لاتتمتع بشعبية الحاضر ، لكنها تحمل مصداق المستقبل.
كان التوجه يتطلب الإنتقال من عقلية الرعي الى رؤية الإداري ، مايقتضي التقليص التدريجي لتراكم الوظيفة الحكومية مع ما تفرزه من بطالة مقنعّة واستنزاف مالي غير منتج وسيادة الروتين الشكلي بديلاً للعطاء الفعلي، واستبداله من ثم بإعتماد نظام العقود السنوي لمعظم القطاعات ، بما فيها التعليم والصحة والكهرباء، مع تشجيع القطاع الخاص لامتصاص الفائض من المؤهلين في القطاعات المذكورة ، أما احتياجات الدولة من الوظائف العامة ، فيمكن اقتصارها في مجالات معينة مثل : القضاء والقوات المسلحة والداخلية والإدارات العامة ، حيث لايمكن للدولة الإستغناء عنها .
كانت التوجهات في هذا المجال، تذهب الى الجانب الإجرائي على حساب الجانب البنائي ، وفيما يأخذ الاجرائي صفة المؤقت والطارىء الذي يكون في العادة عرضة لكلّ أنواع المعوقات والتقلبات التي يتطلب مواجهتها إجراء آخر ، يميل البنائي نحو التراكم والثبات والمتابعة والإضافة .
ذلك هو الفارق بين التجريب الآني والتخطيط الإستراتيجي ، بين العمل على بناء مرتكزات الدولة ، أو الإنهماك في تثبيت ( الركائز) الخاصة للزعامة ، انه الفارق بين رؤيتين ، غالباً لايلتقيان ، لكن بناء الدولة كان يقف في البرزخ ، بين واقع معرقل ، ومستقبل جاذب نحو رؤية السراط الذي ينبغي السير عليه.
ذلك ماكان يتطلب سياسيين من سبيكة خاصة ، ينبغي ان ينظروا الى السياسية بإعتبارها عذراء دائماً وإن (( إسبوع في السياسة زمن طويل )) .
يُنسب ذلك القول ، الى رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل (1) الذي قاد بلاده في أصعب مراحلها وأشدّها حراجة ، لكن لو لم تكن بريطانيا في حالة حرب حينها ، فهل كان الأمر يختلف كثيراً بنظر قائد سياسي بحجم تشرشل ؟
القول إياه– وبغضّ النظر عن قائله – يمثلّ خلاصة السياسة وجوهرها ، لكن بإعتبار ممارستها بما ينبغي ان تكون عليه .
بهذا المعنى ، تصبح السياسة احتراساً دائماً وعيناً مفتوحة في كلّ اتجاه ، ذلك لأن على السياسي ان يحافظ على نظافته وسط حشد من المغريات ، وعلى استقامته بين أجواء قد تكون ملبّدة في السوء ، وعلى صقل ذكائه لاجتراح الحلول لمشكلات قد تبدو مستحيلة في ظلّ مرحلة ينتابها الشكّ والتشابك ، كذلك تجنيد قوته لقهر العقبات ومهارته لتجاوز المطبات وسرعة بديهته وانتباهه لاكتشاف الأفخاخ المنصوبة من قبل الخصوم – بل والأصدقاء كذلك – وفوق كلّ هذا، عليه ان يحافظ على هدوئه وسط الضجيج ، وتماسكه وسط الإنهيار، وصلابته عند الهشاشة ، وحسن سلوك بين الفجاجات ، ومبادىء قويمة وسط متاجرات ، وصدق بين رياءات .
في كلّ ذلك وفي العمق منه ، ستكون كلّ كلمة يقولها، هي بمثابة عذراء تخرج من خدرها نقية طاهرة ، قد تكون خجولة لكنها شجاعة ، تنبع شجاعتها من طهرها ذاته ، حيث لا مخبوء تخشى انكشافه ، ولاعيب تحذر من ظهوره ، وهو مايسمى في عالم السياسة ب
( الشفافية ).
تنويعاً على ذلك ، يمتدّ مفهوم ( العذرية ) ليشمل الدولة بجميع مفاصلها ، حيث تصبح والحالة هذه ، عذراء مصانة بالقانون ، فلاينتهكها سياسي فاسد، ولا يغتصبها طاغية ، بل يحرسها قادة سياسيون يراهم شعبهم جديرين بذلك في هذه المرحلة أو تلك.
إذا قبلنا وصفاً كهذا باعتباره من الضرورات الملازمة للقيادات السياسية على وجه الخصوص – ناهيك بممارسي السياسة عموماً – يصبح الأسبوع في السياسة يعادل دهراً في الحياة ، فالزعماء السياسيون هم دائماً تحت الأنظار- وتحت الخطر أيضاً – أفعالهم تؤثر على شعوبهم سلباً أو إيجاباً ، بل وقد يتحول خطأ واحد من قائد سياسي ، الى خطيئة مدمّرة لمصير شعب بكامل أجياله ، ذلك لأن على السياسي ان لاينظر الى الشعب كحقل تجارب يبحث فيه عمّا يصلح أو لايصلح .
لكننا أمام إشكالية يفرزها الواقع أو تنعكس عليه: كيف للشعب العراقي أن يحظى بسياسي يرى في أسبوع السياسة زمناً طويلاً ؟
ذلك يعني انه سيوفر الكثير من الأزمنة التي تهدر بغير حساب ، وسيشقّ طريقه : أما الى المجد ، أو الى الجلجلة ، تلك هي المعضلات التي تجعل السياسيين يخشون الوصول اليها .
لا أحد يتوقع جلجلة يسير فيها وإن على احتمال بعيد ، ذلك لأن جميع سياسيي المرحلة ، كانوا يبحثون عن طريق المجد من دون ان يوفروا مقومات الوصول اليه ، يكفي ان يتزعم السياسي حزباً أويرأس كتلة أو يكثفّ ظهوره الإعلامي أو يناكف خصومه، كي يصبح قيادياً ، وكلما طال وقت ممارسته للسياسة ، كلما إزداد تعلقاً بها ، لأنها والحالة هذه تعطيه ولا تأخذ منه – الا فيما ندر-.
القيادة السياسية موهبة وإبداع ، لكنها بحاجة إلى صقل دائم وان توفرت لصاحبها، وإلا فقد تندثر أو تتراجع درجة الإضمحلال .
كانت المرحلة العراقية – خاصة تلك التي تلت انتخابات 2010- تعجّ بالسياسيين ومعظمهم يحمل لقب (قيادي ) وهو مصطلح أدنى مرتبة من (قائد) الذي من أولى علاماته ، أن يكون حامله في موقع قادر من خلاله على اتخاذ القرار وإصدار أمر تنفيذه ، مع الإستعداد للتضحية في سبيل قراره إن كان صواباً – بما فيها الإستقالة – وهذه واحدة من أهم صفات القائد وأكثرها محورية.
لكن ، ألا يعني ذلك إن القائد والحالة هذه قد يكون (دكتاتوراً ) ؟
يختلف المفهوم هنا بحسب الظرف المحيط وشخصية القائد ذاتها ، فالإمام علي حينما التقى معاوية في صفين ، كان مستعداً للموت بدليل دعوته لمبارزة معاوية ، فيما كان الأخير قائد سلطة يستمتع بمباهجها دون تضحية في سبيلها .
وفي العصور الوسيطة والحديثة ، ييرز مثال ابراهام لنكولن وغاندي ونيلسون مانديلا ، كرموز لمعنى القائد السياسي الذي حمل كلّ منهم تلك الصفة منذ بداية تصديه للقيادة ، فدفعوا حياتم قتلاً أو سجناً طويلاً ، لكنهم جميعاً أرسوا قواعد لمعنى ممارسة السياسية حيث الأسبوع فيها زمن طويل .
أما في العراق ، فمازالت السياسة “عذراء ” أي لم يقربها أحد ليعرفها عن كثب ، رغم أنها موجودة في العراق الذي اشتهر شعراؤه بعشقهم” العذري” في دولة متعثرة لاتقبل الإعتذار .
(1) ينسب القول كذلك الى توني بلير رئيس وزراء بريطانيا إبّان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.