22 ديسمبر، 2024 8:33 م

السياسة الشرعية بين النظرية والتطبيق/3

السياسة الشرعية بين النظرية والتطبيق/3

مقدمة
قال علي بن أبي طالب (رض)” لا يصلح لكم يا أهل العراق إلّا من أخزاكم، وأخزاه الله”. ( ربيع الأبرار5/200).
من الأقوال والحكايات التي أوردناها في هذا المبحث، يمكن إستنتاج معنى السياسة الشرعية بكل وضوح، فحقوق الإنسان وموقف الحاكم من مواطنيه هي لب السياسة الشرعية، والهدف الأسمى لها، وقد وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكذلك في أقوال الصحابة والتابعين وكبار الحكماء المسلمين، بل وغير المسلمين أيضا، ولكننا سنقصر المبحث عن السياسة الشرعية ضمن المنظور الإسلامي، وإلا لأحتاج المبحث الى كتابا مستقلا يضم المحاور الخاصة بالسياسة الشرعية من كل الجوانب. ولاشك ان القضاء العادل هو الرقيب الرئيس على السياسة الشرعية في البلد، فكلما قوي القضاء صَلحت السياسة الشرعية وكلما تراخى وكان في خدمة الحاكم وليس الشعب ساءت السياسة الشرعية. القرآن الكريم هو دستور السياسة الشرعية في الإسلام، وتتبعه السنة النبوية وسلوك الخلفاء من بعد النبي المصطفى، ومن المؤسف ان سيرة العديد من الخلفاء تعرضت للتشويه المتعمد لأسباب دينية وطائفية وعنصرية، وقد تماشى معها الرواة الجهلة ومن يبغض الإسلام وغالوا فيها، وربما أكثر من شمله التشويه في العهد الأموي ـ وهو العهد العربي الأصيل الذي لم تدخل فيه العناصر الأجنبية وتتسلم مناصب عليا في الدولة ـ منهم كاتب النبي (صلى الله عليه وسلم) معاوية بن أبي سفيان وإبنه يزيد وعبد الملك بن مروان والوليد، وفي الزمن العباسي الأول أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد، والأخيران بسبب موقفهما من الأعاجم الخراسانيين (ابو مسلم الخراساني)، والبرامكة (نكبة البرامكة).
كان الرواة الشيعة من ابرز الطعانيين في الإسلام، وقدموا خدمة كبيرة للمستشرقين في تشويه معالم الدين الاسلامي من خلال إفترائهم على الصحابة والخلفاء، والطعن بالقرآن الكريم، مع ان أئمتهم الذين لم يتمردوا على الخلفاء عاشوا بسلام وبحبوحة، ولم يتعرض لهم الخلفاء. والغريب في الأمر هو توارث الحقد من جيل لآخر، ففي العراق مثلا طالب النواب الشيعة بتغيير إسم شارع الرشيد ظنا منهم ان التسمية بالرشيد تعني الخليفة الرشيد مع ان الإسم يتعلق بسلطان عثماني، والبعض طالب بردم نصب ابو جعفر المنصور مؤسس بغداد وبعدة محاولات، ويقف رجال الدين والساسيون الطائفيون مثل نوري المالكي ومقتدى الصدر وجلال الصغير وعمار الحكيم وبهاء الأعرجي وحازم الأعرجي وغيرهم وراء تأجيج هذه الكراهية، بل ان قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق برأ أهل الكوفة من جريمة قتل الحسين بن علي ولصقها بأهل الموصل، وبهاء الأعرجي اعتبر المؤامرة على الشيعة مستمرة من زمن أبي بكر ولغاية عهد احمد حسن البكر، وهام جرا.
مستلزمات نجاح السياسة الشرعية
اولا. صلاح الحاكم
من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر الجبرتي” يقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية”. (عجائب الآثار1/22). قال الثّوريّ: نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر، وفتنة القائد الجاهل”. ( الامتاع والمؤانسه1/242).. قال عمرو بن العاص” لأن يسقط ألف من العلْيةِ، خير من أن يرتفع واحدُ من السفلة”. (درر الحكم /42). حكى الطرطوشي” روي أن المأمون أرق ذات ليلة، فاستدعى سميراً فحدثه بحديث.
فقال السمير: يا أمير المؤمنين كان بالبصرة بومة، وبالموصل بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها. فقالت بومة البصرة: لا أنكحك ابنتي إلا أن تجعلي في صداقها مائة ضيعة خراباً.
فقالت بومة الموصل: لا أقدر عليها الآن، ولكن إن دام والينا سلمه الله علينا سنة واحدة، فعلت لك ذلك! قال: فاستيقظ لها المأمون وجلس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض وتفقد أمور الولاة”. ( سراج الملوك/123).

ثانيا. تحقيق الأمن وحماية الرعايا بلا إستثناء
التعامل مع الناس بمساواة دون تغليب الأهواء والميول الشخصية والعنصر والدين والمذهب والجنس. قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعد هذا”. (الكامل للمبرد2/125). اللبيب يفهم المغزى. قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعد هذا”. (الكامل للمبرد2/125). اللبيب يفهم المغزى.

ثالثا. منع الظلم ومحاسبة الظالمين بقسوة
ذكر الصابي” قال لنا أبو الحسن بن الفرات، وقد جرى بحضرته ذكر رجل قد أسرف في الظّلم: الظلم إذا زاد رفع نفسه”. (الوزراء/238). ومما يحكى: نظر سقراط إِلَى امْرَأَة حِين أُرِيد قَتله، وَهِي تبْكي، فَقَالَ لَهَا: مَا يبكيك؟ قَالَت: وَكَيف لَا أبْكِي وَأَنت تقتل ظلما؟ فَقَالَ لَهَا: فكأنك أردْت أَن أقتل بِحَق”. (نثر الدر في المحاضرات7/14). ذكر ابو الفداء” كثرت الحرامية في زمن الملك الناصر، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين”. (المختصر في أخبار البشر3/212)

رابعا. دعم القضاء وابعاد تأثير القوى الحاكمة على أحكامه
قال التنوخي” إذا اختلّ أمر القضاء في دولة، اختلّ حالها”. (نشوار المحاضرة 1/231). ومحاسبة الفاسدين. ذكر ابو الفداء” كثرت الحرامية في زمن الملك الناصر، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين”. (المختصر في أخبار البشر3/212)

خامسا. الصدق في القول وتجسيده بالفعل
قال الأوزاعيّ” المؤمن يقلّ الكلام ويكثر العمل. والمنافق يكثر الكلام ويقلّ العمل”. ( الامتاع والمؤانسه1/242). وقيل: سَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ: فَعَلْتُ إلَيْك وَفَعَلْتُ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: اُسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ إذَا أُحْصِيَ”. (أدب الدنيا والدين/204). قال أبو جعفر بن سنانك ((جمال الرجل فى حسن مقاله؛ وكماله فى صدق فعاله”. (طبقات الصوفية/96)

سادسا. التقرب من الناس وتفقد أحوالهم سرا وعلنا
العمل على متابعة أحوالهم والإستماع الى مشاكلهم وحلها ما أمكن ذلك. ذكر الجبرتي” يقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية”. (عجائب الآثار1/22). ويمكن للراعي ان يتنكر بالزي ويخرج ليلا لإستطلاع أحوالهم، والنظر في ظلاماتهم.

سابعا. تقريب الحكماء وجعلهم مستشارين
بمعنى العمل على إبعاد المنافقين والمتزلفين والمداحين والإهتمام بالأفعال وليس الأقوال، فالحكيم يعطي الإستشارة الصحيحة وينور عقل الحاكم ويصوب قراراته، ويحذره من الوقوع بالخطأ. وتجنب الجهلة ومدعين العلم، وتحديد مهام رجال الدين في مجال الشرع فقط، قال النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:أَهْلَكُ أُمَّتِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ فَاجِرٌ وَجَاهِلٌ مُتَعَبِّدٌ”. (أدب الدنيا والدين/81). كما قال السيوطي” من الأمثال القديمة: كاد الحكيم ان يكون نبيا”. (الكنز المدفون/27). قال أبو بكر الوراق” قرأت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وأربعين صحيفة في الحكمة، فمحصول جميعها خلتان أحداهما اجلال أوامر الله تعالى ونواهيه والثانية الشفقة على خلق الله”. (مفيد العلوم/390).

ثامنا. الحث على طلب العلم وانهاء مظاهر الجهل والأمية
قال تعالى في سورة الاعراف/179((لهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)).

تاسعا. دعم الفقراء والتخفيف عنهم من خلال مساعدتهم
قال سفيان الثوري للمهدي في وجهه” احذر من هؤلاء الأعوان، والمترددين إليك من الفقراء، فإن هلاكك على أيديهم يأكلون طعامك، ويأخذون دراهمك، ويغشونك ويمدحونك بما ليس فيك”. وقال أبو سعد الآبي” قَالَ سعيد بن عبد الْعَزِيز: مَا ضرب الْعباد بِسَوْط أوجع من الْفقر”. (نثر الدر في المحاضرات4/135). قال المبرد” قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعد هذا”. (الكامل2/125)

عاشرا. غلق باب الحاكم عن رجال الدين
من المخاطر التي تهدد الدول تعاظم دور فقهاء السلطان، لذا لابد من منعهم من دس إنوفهم في سياسة الرعية إلا في مجال النصح والوعظ. قال سفيان الثوري” إذا رأيتم العالم يلوذ بباب السلطان، فاعلموا أنه لص، وإذا رأيتموه يلوذ بباب الأغنياء، فاعلموا أنه مراء”. وقال علي بن أبي طالب” قصم ظهري عالمُ متهتك، وجاهل متنسك؛ فالجاهل يغش الناس، والعالم يغريهم بتهتك”. ( إحياء علوم الدين للغزالي1/ 58).

احد عشر. وضع الشخص المناسب في المكان المناسب
ذكر وكيع” قال إياس بْن معاوية: كل بنيان بني على أساس أعوج لم يستقم بنيانه”. (أخبار القضاة2/356).

اثنى عشر: تنشئة الأجيال على حب الوطن، ومعالجة أوضاع المهجرين والمغتربين
وذلك من خلال الإهتمام بها وتهيئة مستلزمات الحياة الكريمة لهم. قال ابو عبد اللّه الصبيحى” الغريب هو البعيد عن وطنه، وهو مقيم فيه”. (طبقات الصوفية/85).

الخاتمة
مسؤولية الحاكم تجاه رعيته
قال الإتليدي” لما رجع عمر (رض) من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها فقصدها. فقالت: ما فعل عمر (رض)؟ قال: قد أقبل من الشام سالماً. فقالت: يا هذا! لا جزاه الله خيراً عني! قال: ولمَ؟ قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين ديناراً ولا درهماً. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحداً يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها. فبكى عمر (رض)، وقال: وا عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر! ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله. فقال عمر: لست أهزأ بك. ولم يزل حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً.
فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب (رض)، وعبد الله بن مسعود (رض)، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه؟
فقال لها عمر (رض): لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين ديناراً. فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود. ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي”. ( إعلام الناس/10).

علي الكاش
مصادر المبحث
ـ السياسة. الحسين بن علي بن الحسين، ابو القاسم المغربي (المتوفى:418هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم. مؤسسة شباب الجامعة. الاسكندرية. ط/1
ـ السياسة. الحسين بن عبد الله بن سينا (المتوفى:428هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم. مؤسسة شباب الجامعة. الاسكندرية. ط/1
ـ تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك. ابو الحسن علي بن محمد البغدادي المعروف بالماوردي (المتوفى:450هـ). تحقيق: محي هلال وحسن الساعاتي. دار النهضة العربية. بيروت 1986
ـ المنهج المسلوك في سياسة الملوك. عبد الرحمن بن نصر، جلال الدين العدوي الشيزري (المتوفى:590هـ). تحقيق: علي عبد الله الموسى. مكتبة المنار. الزرقاء
ـ تحرير الأحكام في تدبير الإسلام. ابو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني (المتوفي:733هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم أحمد. دار الثقافة. الدوحة 1988
ـ بدائع السلك في طبائع الملك. محمد بن علي الأندلسي، شمس الدين إبن الأزرق. (المتوفي: 965 هـ). تحقيق: د. علي سالم النجار. وزارة الاعلام. بغداد (2) مجلد.
ـ العقد الفريد. شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه الاتدلسي (المتوفي:329 هـ). تحقيق: د. مفيد محمد قبيحة. دار الكتب العلمية. بيروت. 1403 هـ.
ـ عجائب الآثار في التراجم والأخبار. عبد الرحمن بن حسن الجبرتي (المتوفي:123هـ). دار الجيل. بيروت.