23 ديسمبر، 2024 6:20 ص

السيادة المقبورة كيف بُعثت وهي رميم؟

السيادة المقبورة كيف بُعثت وهي رميم؟

قال هاينرش هينة ” لم أرٌ حمارا يتكلم كالبشر، لكني رأيت الكثير من البشر يتكلمون كالحمير”.
عندما تتحدث الحكومتان العراقية والسورية عن السيادة، فأن الأمر مثير للضحك حتما، سيما عندما يطلبان من كل دول العالم بلا إستثناء وبلا قيود مساعدتهم في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية غافلي موضوع السيادة، وبعد ذلك يتذكرها ويطالبا بإعلامهما أولا. أشبه ما يكون ببيت دعارة لا يسمح دخوله إلا عبر السمسار. لا نفهم كيف تكون الدولة مستباحة وفاتحة حدودها وساقيها للجميع وتطالب بنفس الوقت بإحترام كرامتها. أي كرامة وسيادة تتحدث به حكومة العبادي ومطيتها مجلس النواب الذي تحول من سلطة تشريعية الى قسم ملحق بالسلطة التنفيذية مهمته الرئيسة إشباع رغبات هذه السلطة الفاسدة من القاع إلى الهرم.

حكومة العبادي وخلفها الطالح يمكن بكل إيجاز وصفهما بحكومات أزمات، ما أن تنتهي أزمة ما مع دولة ما حتى تهيأ لوازم الأزمة القادمة بكل إقتدار ومهارة، مع أعطاء الأولوية للدول العربية، والدول المعادية لإيران، على إعتبار أن العراق وايران مثل زوجة وزوج، او روح وجسد، كما قال بعض المسؤولين الإيرانيين وكررها الببغاوات العراقية الطائرة في سماء دولة الفقيه. لكن حتى الزوجة لها حقوق على الزوج وهذ ما لا تتمتع به الزوجة العراقية.

الأزمة العراقية التركية بدأت مع إشتداد الأزمة الروسية التركية، على الفور وبدون سابق إنذار صعدت الحكومة الإيرانية من تصريحتها الحادة ضد الحكومة التركية ووجهت الحكومات التابعة لها بالتصعيد، وفعلا قامت الحكومة العراقية والسورية ودويلة لبنان بالتصعيد وفقا لتوجيهات الولي الكريه. وبعد أن وجهت الحكومة التركية تهديدا واضحا لحكومة إيراني، خفف روحاني من لهجته، لكن كلابه لا تزال تنبح بقوة. . قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اجتماع للنقابات العمالية التركية، إن القنوات الإيرانية زجت بأفراد أسرته في مزاعم شراء تركيا للنفط من تنظيم الدولة”. وأشار إلى أنه حذر الرئيس الإيراني وقال له: إنكم تقعون في خطأ كبير، وإذا استمر الأمر على هذا المنوال، فإنّ عواقب ذلك ستكون وخيمة، وستدفعون ثمنا باهظا، وبعد عشرة أيام، مسحوا هذه الادعاءات من مواقعهم” مشيرا إلى أنّ “أنظمة الكذب والافتراء والتقية تقف وراء هذه الادعاءات”.

بدأ التصعيد العراقي بحجة دخول قوات تركية الى محافظة نينوى ولا أحد يجهل أن هذه المحافظة أصلا هي خارج سيطرة الحكومة العراقية، والقوات التركية كما صرح رئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي ورئيس حكومة كردستان مسعود البرزاني بأنها موجودة بعلم الحكومة العراقية، وبإتفاقية مسبقة، كالعادة تضاربت تصريحات المسؤولين العراقيين حسب الولاءات الخارجية، فمنهم من أقرها كما لاحظنا، ومنهم من أنكرها كالتحالف الشيعي، ومنهم من أنكر علمه بوجود هذه القوات كما ذكر ناطق بأسم وزارة الدفاع العراقية. وليس من المستغرب أن يكون موقف التحالف الشيعي التابع لإيران هو الأكثر تعصبا وحدة في موقفه من وجود القوات التركية. فقد صرح النائب في التحالف الشيعي( حيدر المولى) بأن: التحالف اتخذ قرارا بطرد السفير التركي وقطع العلاقات مع انقرة وتقديم دعوة الى مجلس الامن لعقد جلسة طارئة”. وهذا التصريح يدل على جهل مطبق في البروتوكول لأن النائب لا يجوز أن يصرح بشيء إلا بعد أن تتخذ وزارة الخارجية قرارا بهذا الصدد، وهذا القرار عادة ما يحفز الدولة المقابلة الأخذ بمبدأ المقابلة بالمثل، وبحكم علاقات التجاور وأهمية تركيا في المنطقة فأن القرار سينعكس سلبا على العراق وبدرجة أقل على تركيا.

إن القرارات الإنفعالية غير الصادرة عن العقل لا يمكن أن تخدم العراق، وهذا التصعيد وأن قابلته تركيا لحد الأن بهدوء تحسد عليه، فإنما يمكن أن تكون له تداعيات خطيرة في المستقبل القريب، ولا أحد يجهل ان العراق لا يؤثر على تركيا أكثر من طنين ذبابة! الحكومة التي فشلت منذ سنوات في تحرير أراضيها من تنظيم الدولة الإسلامية بمساعدة معظم دول العالم هي أضعف من أن تشكل أي تهديدا جديا لدولة كبيرة وعضو في حلف الناتو. المهلة العراقية لتركيا إنتهت دون خروج القوات التركية! وطالبت منظمة بدر ذات الولاء الإيراني العبادي بتوجية ضربة جوية للقوات الغازية كما سمتها، وصرح بعضهم أنه لولا السفير الأمريكي ومسعود برزاني وتوسطهما لدى حكومة العبادي لتحولت الدبابات والأسلحة التركية الى خردة، وكأنه يتحدث عن قطعات عسكرية لجزر القمر وليس تركيا، وبدوره أدلى هادي العامري بدلوه مؤكدا أن الدبابات والمدرعات التركية ستكسر فوق رؤوس الإتراك إذا لم ينسحبوا. حسنا ها هم لم ينسحبوا! فماذا فعل العبادي والعامري؟

إتصل العبادي على الفور بعد إنتهاء مهلته (48) ساعة برئيس حلف الناتو متوسلا تدخله لإقناع الحكومة التركية بسحب قواتها، بعد أن أوضح له بأنه في موقف لا يحسد عليه بسبب الضغوط الإيرانية وأقزامها العراقيين عليه. في الوقت الذي التزم فيه الجانب التركي اللغة الدبلوماسية في التعامل مع الأزمة على العكس من فوضى المواقف العراقية، قال نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قورتولموش” إن الوجود العسكري التركي في الموصل ليس ضد شعب وحكومة العراق على الإطلاق، بل على العكس لدعم الحكومة في حربها ضد داعش، فعناصر القوات المسلحة التركية موجودون هناك لأغراض تدريبية، وليس لدينا عناصر قتالية، وقد جرى تضخيم القضية، ونأمل أن يتم خفض التوتر في أسرع وقت”. ولتوضيح كيفية وجود وتحرك هذه القوات أجاب” تركيا تتحرك بالتنسيق مع الحكومة العراقية المركزية منذ البداية فيما يتعلق بالتدريب، ومن أجل إزالة ذلك التوتر، بحث وزير دفاعنا مع نظيره العراقي الأمر، وعقبها بعث رئيس وزرائنا رسالة إلى نظيره العراقي حيدر العبادي، فالمسألة جزء من تدريب عسكري مخطط، وتركيا موجودة هناك منذ مدة طويلة، وتشرف على هذا التدريب”. القوات التركية إذن ليست جديدة وهذا التصريح يتوافق مع ما ذكره النجيفي والبرزاني حول وجود هذه القوات بعلم الحكومة العراقية والتنسيق معها.

سبق أن أتهمت حكومة العبادي تركيا بشراء النفط من تنظيم الدولة الإسلامية إلحاقا بالموقف الإيراني والروسي، مع ان المعلومات متضاربة حول الموضوع وهناك اتهامات تركية روسية متبادلة، ونفى رئيس منظمة الأوبك إتهام تركيا بهذه التهمة، وكذلك الحكومة التركية نفت التهمة وتحدت حكومة بوتين ان تثبت هذه التهمة. من جهة أخرى أشارت حكومة العبادي بأنها سترفع شكوى لمجلس الأمن حول الموضوع النفط ضد تركيا مستبقة التحقيقات الدولية، وكذلك شكوى أخرى لمجلس الأمن حول وجود القطعات التركية في الموصل. وهذه أول مرة تهدد حكومة العبادي بمجلس الأمن، تصعيد آخر إضافة الى الخيار العسكري غير القادرة عليه! يبدو ان حكومة العبادي تتباهى بعضلات روحاني، وهي لا تدرك بعد ان إيران نمر من ورق لا أكثر! وعاصفة الحزم أقرب دليل على التنصل الإيراني.

لا أحد يجهل ان القوات الإيرانية موجودة في داخل العراق، وعلى إفتراض انها موجودة بعلم الحكومة العراقية، فأن القطعات الإيرانية سبق ان توغت داخل العمق العراقي دون موافقة وعلم الحكومة العراقية، مع هذا فالسيادة العراقية لم تصرخ وتندب حظها السيء أو تنجرح كرامتها. فقد اعترف أحمد رضا بوردستان قائدُ القوة البرية في الجيش الإيراني في 25/8/2015 بالتوغلِ العسكري البري في ناحيتي جلولاء والسعدية بمحافظة ديالى، بداعي منع الخطر عن بلاده، برغمِ أن المنطقتين تبعُدان عشراتِ الكيلومترات عن الحدود العراقية الإيرانية. وذكر مصدر مطلع بتصريح لمصدر صحفي “ان بودرستان أكد أن تدخلَ قواتهِ في الناحيتين العراقيتين استهدف الحيلولةَ دون اقتراب مسلحي (التنظيم) من الحدود الإيرانية، واعترفَ بوردستان ايضا بانَ التدخلَ المباشر من قبل

القوات الايرانية في الأراضي العراقية اسفر عن تجميدِ تحركات الإرهاب في منطقتي جلولاء والسعدية”. وأضاف المصدر” ان بوردستان أكد أن القواتِ الإيرانية ستواصل عملياتِها في الحدود الغربية لإيران في اشارةٍ الى العراق، مضيفا أن الجيش الإيراني سيوقِفُ أي تهديدٍ قبل الوصول ِالى حدودِ البلاد”. بل أن الجنرال مرتضى قرباني أشار إلى أن ” خطوط دفاع الثورة الإيرانية باتت اليوم في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، ونحن على أهبة الاستعداد لتطبيق أوامر المرشد الإيراني خامنئي، للتحرك في أي مكان لأنه هو من يقود هذه البلاد والثورة ولأنه ممثل الإمام المهدي المنتظر في العالم”. مع هذا بلعت السيادة العراقية هذه التدخلات والتصريحات المبتذلة. إن كان من حق إيران أن تدخل الأراضي العراقية بذريعة الحفاظ على أمنها القومي، فلماذا لا يحق لتركيا بنفس الحجة. هل السيادة العراقية تكيل بمكيالين؟

إذن ما وراء هذا التصعيد المفتعل؟

هناك في السياسة قاعدة معروفة وهي عندما تواجه فضيحة قوية تهددك، فأول ما تقوم به هو أن تصنع فضيحة ثانية تطغي على الأولى، وتسلط عليها بكل قوة القنوات الحكومية ووسائل الإعلام فينسى الرأي العام الفضيحة الأولى ويلتفت إلى الثانية. فما هي الفضيحة الثانية؟

الحقيقة هي فضيحتان وليس واحدة.

الأولى: صرحت الميليشيات العراقية بأنها ترفض إرسال الولايات المتحدة قوات جديدة للقيام بعمايات عسكرية في الأنبار، وهددت بعضها بأنها ستحارب هذه القوات وتطردها من العراق، بل إن الحشد الطائفي هدد العبادي من مغبة الموافقة على وجود هذه القوات الجديدة. مما جعل العبادي يصرح بأن عنده الحشد الشعبي يكفي لتحرير الأنبار ولا يحتاج إلى قوات أجنبية. وبعد التصريح مباشرة جاءت قطعات أمريكية ونزلت في قاعدة عسكرية في الأنبار، وذكرت الإدارة الأمريكية بأن القطعات حربية، ليست لغرض التدريب وإنما القيام بعمليات برية.

الثانية: دخل حوالي نصف مليون زائر إيراني وأفغاني وباكستاني للعراق من منفذ زرباطية الحدودي وهم بلا جوازات ولا سمات دخول أو أوراق ثبوتية (بقصد واضح)، وحطموا البوابات الحدودية وأعتدوا على حرس الحدود وحجزوهم في غرف مقيدين (هذا ما لم يشر له الإعلام الحكومي). وظهرت صور مخزية تبين مهمة الجيش العراقي الجديدة، الذي ترك مهمته الوطنية للحشد الطائفي وأنصرف إلى تدليك أرجل الزوار الإيرانيين وغسل أقدامهم. وكانت فضيحة بجلاجل جعلت وزير الدفاع السني أخرسا.

المهم بعد أن إنتهت مراسم الزيارة رفض الزوار الهجين العودة إلى إيران بحجة أنهم من أصول عراقية طردهم الرئيس الراحل صدام حسين (العجيب إنه طرد بضعة آلاف ولكنهم فرخوا فصاروا مليونين). وعندما أصدر مجلس النواب العراقي بيانا أشاد فيه بحكومة الروح والجسد، وطلب بكل شفافية مراعاة وتنظيم دخول الأشقاء الإيرانيين للعراق! حتى هذا البيان الرقيق العاطفي لم تستسيغه الروح الإيرانية من الجسد العراقي، حيث صرح الجنرال الإيراني عطا الله صالحي أنه ” ليس من حق العراق منع الإيرانيين من دخول أراضيه لأنها في الأساس أرض أجدادنا ونحن أحق بها لذا يتوجب على العراقيين معرفة هذا الحق وتجنب مجاراة الأمة الإيرانية”. السيادة العراقية بلعت الإهانة كالعادة.
هل عرف العرب والعراقيون الآن ما يقف وراء التصعيد العراقي ضد تركيا؟