( 3 )
تشكل الأمكنة الواجهة الجغرافية لوجه الأرض ، وتفاصيل الامكنة لا تحصى من المهد الى اريكة محطة القطار ، وعندما لا نشعر بتأثير وهاجس المكان فينا ، لن نشعر بثبات اجسادنا على البلاطة التي نقف عليها .
وربما الذكريات وما يبدعه البشر في مجال الادب والفنون والرؤى الجمالية الاخرى هي من تجعل للمكان رئة يتنفس من خلالها وقلب ينبض حياة حتى لو كان المكان عبارة عن قرية من الطين أو خزانة خشبية لحفظ الدمى في البيت العائلي الذي تركناه خلفنا وجئنا الى المهاجر وهي حتما امكنة حياة جديدة.
غاستون باشلار ( الجمالي والفيلسوف الفرنسي ) أعتنى بهاجس المكان كثيرا وافرد له كتابا مهما هو ( جماليات المكان ) وفي هذا الكتاب يشعرنا باشلار بأن وجود البشر والمحفز الاول لنشوء احلام لياليهم هي تلك البقع المتعددة الصفات والالوان والاشتغال ( الحديقة ، البيت ، عش العصفور ، الاريكة ، ناصية الرصيف ، الجدار ، مسطبة الكتابة ، السرير ، ضفة النهر ، الموضع القتالي ، كرسي الحافلة ) وامكنة لا تحصى تجبرنا دوما في جمعها بذاكرة واحدة لتكون مشهد عام للحياة كلها.
أسطرة المكان وتحويله من الواقع الى فنتازيا الخيال جزء من مهمة قراءة جمالية الامكنة ومدى تأثيرها فينا ، والشعر فعل هذا عند الكثير من الشعراء ، وربما طروادة التي تم الحديث عنها من قبل هوميروس في الاوديسة والالياذة هي اول مكان جعله الشعر ساحة لأسطرة الاحداث ووقائع حرب لم يحسمها بالرغم من تدخل الالهة فيها ، لم يحسمها سوى خدعة الحصان الخشبي.
ومختصر الحكاية ان مدينة طروادة Troy تقع في آسيا الصغرى، وهي مدينة بحرية غنية تحكي الأسطورة أن بوسيدون إله البحر بناها برفقة أبولو إله الشعر والفنون، فكانت مدينة منيعة وقوية.
تُعيد الأساطير أسباب حرب طروادة إلى مشاحنة إلهية بين آلهة الأوليمب الاثني عشر، وخلاف بين الربات الثلاث هيرا وأفروديت وآثينا حول الأجمل منهن، وقيام باريس بخطف هيلين الطروادية ملكة أسبرطة، وزوجة منيلاوس شقيق أجاممنون بن أتريوس.
الشاعر العراقي بدر شاكر السياب له مع الامكنة في قصائده مواويل شوق ووصف وتأثر على المستوى الروحي والحياتي والابداعي ، لأن بدر جعل من هذه الأمكنة بوابة للمناجاة والتشكي والرغبة والحلم .
بل وجعلها جسرا للعبور الى غايات ما كان يتمنى ويثري تجربته الشعرية ويجعله متفوقا على من كان يعتقد انه ابرع منه في الريادة والحداثة. وربما هو الشاعر العراقي الأول من اسطر المكان وحوله من حال الى حال حتى يتخيل القارئ انه حين يقرا منزل الاقنان أن هذا المنزل هو واحد من منازل اليوتيبيا والمبني ضمن الخيال الشهرزادي ولن يسكنه سوى الاغوات والسلطان بالرغم من انه في الحقيقة المنزل كان منزل لذوات معتبرين وأصحاب وجاهة ومكانة ومال في ابي الخصيب وقرية جيكور ، لكنه ذهب الى الابعد ليجعل من منزل الاقنان وجيكور القرية الخصيباوية الصغيرة ، والتي يرويها نهر نحيف تأسطر ايضا مع القرية ليتحول في قصائده من نهر قد يضمحل مع لهيب الصيف الى شاخص روحي معبئ بأمواج حنين العالم كله وكأنه نهري دجلة والفرات او النيل او المسيسبي.
أسطرة المكان بالنسبة للسياب عبر مكان اغلب بيوته من الطين والآجر وجذوع النخيل ، منحت جيكور افاقا من الخيال في ذاكرة القارئ البعيد ، حتى ان احد الكتاب المغاربة المعرفين قال لي مرة في طنجة ان من بعض احلامه ان يشرب من ماء نهر بويب ويلتقط صورا للذكرى في باحة منزل الاقنان في جيكور.
ولم اشيء ان اهبط من معنويات صديقي المغاربي واخبره انني في اخر زيارة له ضمن وفد ملتقى النقد الحديث الذي اقامه اتحاد ادباء وكتاب البصرة عام 1995 على ما اظن ، وجدنا منزل الاقنان خرائبا ، وبويب مجرد ساقية موحلة .وجيكور كلها تعاني من وجع الحصار والفقر والفاقة .
تحولت جيكور عند السياب الى مكان اليوتيبيا الغامضة التي تعكس ما تحمله بيئته وذكريات طفولته وصباه وشبابه ليعكس تلك الوقائع ويؤسطر فيها وجودها وتفكيرها وطرائق العيش فيها ، فتتحول ديكور الى لسان حال كل تلك الاحلام والامنيات التي كانت تسكن ذاكرة الشاعر وأرادها أن تكون نافذة لما كان يتطلع ليقفز من اليتم والعوز والمرض وتشابك الاقدار المظلمة في حياة القرية الى عالم يتمنى فيه سحر عشتار وحنو الالهة وتغيير احوال البشر هنا ، من بيوت الطين الى رخام امنياته وقصور فنتازياته . لتصبح المدينة ( القرية ) بوابة التعريق بثقافة الشاعر ورسالته وأمانيه كما تظهره لنا هاجسها الخفي والمعلن قصيدته ( جيكور والمدينة ) :
(( حصادُ المجاعات في جنَّتَيْهَا
رحى من لظى ، مرَّ دَرْبِي عليها
وكَرْمٌ عساليجه العاقراتُ شرايينُ تَمَّوزَ عَبْرَ المدينة
شَرَايينُ في كلِّ دارٍ ، وسجنٍ ، ومقهى
وفي كلِّ مستشفياتِ المجانينِ ، في كل مَبْغّى لَعَشْتَارَ …
يُطلِعْنَ أزهارَهُن الهجينة ))
تلك هي مهمة الشاعر والشعر أن يكون في موازاة الرؤيا وعليه ان ينظر الى امكنته بمنظار لا يتصل بالواقع المباشر بل يدون انعكاس ما تتمناه وتراه الاجفان في خيال القلب والبصيرة وبذلك يضيف الى امكنته المجد الذي قد يعجز ان يجلبه المختار والمسؤول الاداري والاقطاعي الذي يتنيسن عنده الفلاحين القادمين من مدن اخرى من اجل قطاف التمر وحصاد القمح.
لقد نجح السياب في جعل جيكور نافذة لأسطورة خياله الممتلئ حداثة وجزالة وجمالية في نقل الصورة بما تعي احلامه والآمه ووفاءه لمراتع الطفولة والصبا وكانت جيكور قرينة للمدينة التي انتقل ليعيش فيها .البصرة وبعداد وبيروت ومدن المشافي في باريس ولندن والكويت. لكن جيكور كانت الاصدق ملائمة لإحساس الشاعر ونبضه ليصورها كما تعيش في تلك الهاوية العميقة من الجمال والحزن والفقر والسكينة والجزع ، لكن كل هذا كان مداف بجمالية الرؤى والخلط بين المكان النائم قرب ظلال شط العرب زبين الدهشة التي كانت تصنعها الاساطير البابلية والسومرية في اجفان دمى الطين والالهة والبشر ، فيكور الجمع والخلط ضرورة لصناعة الغرابة في الطرح والمزاوجة والاندهاش :
(( من القلب يمتدّ ، عَبْرَ الدَّهاليزِ ، عَبْرَ الدجى ، والقلاعِ الحصينة
وقد نام في بابل الرَّاقصون ، ونام الحديدُ الذي يَشْحذُونه
وغَشَّى على أعينِ الخازِنين لُهاثُ النُّضارِ الذي يَحْرُسونه
حصادُ المجاعات في جنَّتَيْهَا
رحى من لظى ، مرَّ دَرْبِي عليها
وكَرْمٌ عساليجه العاقراتُ شرايينُ تَمَّوزَ عَبْرَ المدينة
شَرَايينُ في كلِّ دارٍ ، وسجنٍ ، ومقهى))
قرب السياب جيكور الى نافذة الضياء في جعل المكان خيال رومانسيا لذكريات يحتفظ في كل صورها عبر معالم المكان ( جيكور ) وكأنه يتقارب في صنع الخيال للمدينة مع تلك الرؤية التي سكنت الايطالي ( ايتاليو كالفينو ) في محاولته لحمل المدينة الى أسطرة غريبة واعادة تكوين معمارها وتفكيرها الروحي وجعلها ليست موجودة على خرائط الجغرافية إلا من خلال الخيال فقط .وقد فعل هذا في كتابه المهم ( مدن لا مرئية ) .غير ان السياب صنع الفنتازيا ذاتها لمدينة موجودة على الارض قريبة من سواد البصرة وحكايات شهرزاد عن اسفار سندباد الاساطير والجزر والتوابل وبساتين النخيل .
صنع لنا جدلية المحاكاة والتغني وتكبير حجم وهاجس وتجميل المكان ( جيكور ) وجعله الاقرب الى الجنة والخيال الاسطوري وهذا يظهر لنا مدى تعلقه وتأثير المكان عليه ، ليمنحه الكثير من الصفات والصور والاخيلة ، وحتما يكاد ان يكون اغلبها ليس موجودا ، لكنه يدرك تماما كما كالفينو أن مهمة الشاعر والكاتب ان يخلق ما ليس موجودا وتراه اعيننا في يومها الحياتي لنعيش الابهار ونعرف الساكن الذي يتملكه الشاعر ويصنع فيه احاسيسه واخيلته ورؤاه وافكاره واحلامه.
وربما فعل السياب هذا في تلك المدائح والاناشيد التي كتبها من اجل قريته وبيوتها وساكنيها واغلبهم من اقاربه ، اعمامه واخواله والاقارب.
وربما قصيدة ( أفياء جيكور ) ترينا تلك الجوانب المضيئة في صنع مدينة رومانسية ومكانا بديلا للجنة التي تخيلها اهل سومر وبابل ولكنهم لم يصلوا اليها .
لكن الفرق بين جيكور وافياء جيكور أن السياب كان في الاولى يميل الى بعض سوداوية النقل والتفكير والخيال وفي الثانية كانت بهجة الاحساس بالمكان والصبغة الرومانسية والمدائح البهيجة بادية وفي اعلى مشاعر موسيقى الشعر واحاسيسه. لهذا نراه في افياء جيكور يتسع في مديح المكان ويلبسه اجمل المشاعر والالوان :
(( ظل من النخل أفياء من الشّجر
أندى من السّحر
في شاطئ نام فيه الماء و السّحب
ظل كأهداب طفل هدّه اللعب
نافورة ماؤها ضوء من القمر
أودّ لو كان في عينيّ ينسرب
حتى أحسّ ارتعاش الحلم ينبع من روحي و ينسكب
نافورة من ظلال من أزاهير
و من عصافير..))
تمنح جيكور شاعرها امنيات كثيرة ، فتكون مكانا للعودة واستعادة ما يفقده الشاعر ( السياب ) في فوضى المدن وامراضها ويعيش في اصداه التذكر ومقارنة والحنين الى مكان كان له فيه منزل ومهد وملاعب طفولة ، فيجعله بوابة لإيصال فكرته ورسالته الشعرية .وليستعرض امام مجاليه حداثة استخدام الأمكنة في هكذا منظور اسطوري لتبدو القصيدة مكتملة في نضجها وتجربتها وغرائبيتها فينال منها الشاعر المجد الكبير.
بين جيكور والشاعر في تجربته الحياتية صلة وثيقة تجعل قارئ شعر السياب يحس ان للمكان الحيز الكبير في اثراء تلك التجربة العميقة والفريدة التي عاشها بدر شاكر السياب لينتج لنا كل هذا التراث الرائع من الشعر.
[email protected]