ــ 4 ـ
يسجل الشعر وقائع الحياة بخصوصية لا يفعل مثلها أي هاجس آخر يبدعه الانسان ليحاكي ما يراه ويعيشه ويحسه. والشعر وليد حرف ونبض قلب وحركة أصابع . وفي المحصلة الشعر هو ما يعكس تأثر الباطن بما حوله وتسجل هذه العلاقة جدلية لوجود البشر منذ لآدم والى اليوم .
أن تلك الجدلية التي لازمت التفكير الانساني منذ البدء كانت تقترن بالإحساس الغيبي اولا ، وهو ذاته الاحساس الذي حاول فيه ابناء ادم ان يفسروا موجودات الكون وظواهره من تعاقب الليل والنهار والفصول الاربعة والمطر والرعد والبراكين وغير ذلك . وبات بفعل هذا المتحرك الغيبي يشعر ان لو اراد ان يصاد طائرا ليقتل الجوع في بطنه لابد ان يتم ذلك عبر طقس ما يؤديه هو من خلال ترتيل خفي يسكنه لقوى يحسها ولكنه لا يراها ، والتي تطورت من الاشارة الى الرسوم ثم الكتابة التصويرية واخيرا الكتابة الحروفية التي اسست لتعدد اللغات واللهجات ولتصير وسيلة التواصل الحضاري الاولى بين المجتمعات.
وربما الادباء والعلماء والكتبة والكهنة والفلاسفة هم الوجه المضيء للظاهرة اللغوية داخل تلك المجتمعات ، وربما الشاعر بين هؤلاء من مسك مهماز التميز الخاص لأن الرؤى البدائية في التفاعل مع الظاهر الكونية ابتدأت من خلال الترتيل الصوتي للكلمات والتي شكلت تجنيسا لنشوء المقطع الشعري ، شفاهيا اول الامر ومن ثم تدوينيا ، لتعيش في كل المجتمعات طبقة نادرة وموهوبة وقليلة ومؤثرة تدعى طبقة الشعراء.
ولد الشعر مع الشاعر ، وولد الشاعر مع قدرية مكتوبة انه سيصبح شاعرا ، ومن بين دوافع الموهبة هناك مثابات لا تحصى تجعل من الاحساس البشري مدركا لرغبة القول والتدوين الى ما نسميه اليوم النص الشعري ، وحتما هذا ال نص هو وليد ما يسكن الشاعر من رغبة وموهبة وثقافة ومؤثر بيئي اغلبه آت من خصوصية المكان . واظن ان المؤثر الروحي فيما يشعره الشاعر ويحسه الاثر الكبير في اظهار الموهبة وخصوصيتها.
نضع الشاعر بدر شاكر السياب أنموذجا لتأثير واحد من هذه الهواجس على تجربته الشعرية التي خلقت في قارئ خمسينيات وستينيات القرن الماضي والى اليوم دهشة مميزة إزاء تلك التجربة الحداثوية والناضجة والمختلفة عن جميع التجارب الشعرية التي عاشت زمن الشاعر الذي ولد في قرية جيكور الواقعة في قضاء الخصيب في محافظة البصرة العراقية.
السياب صنع في تجربته وما عاشه في بيئته وخلال المرحلة الدراسية في دار المعلمين العالية ثم الوظيفية في مديرية الموانئ في البصرة ومن ثم التنقل بين سرير وسرير في مشافي العالم ، صنع نمطا حسيا مميزا في صنع الابهار والتوظيف لأشياء كثيرة لم تكن موظفة كما وظفها السياب في تجربته الشعرية ومنها ( الاسطورة والامكنة وهاجس الداء الذي يسكنه ، )
وفي تلك المحفزات الثلاث انشا السياب عالمه الخاص الخليط بين دهشة الصور ودموع المراثي وبلاغ الصوت الشعري داخل التفعيلة والجديد فيها ، ويكاد يكون الحزن في مشاعره التي سكنت جسد السياب وتفكيره وحياته المعيشية هو الرابط والمحفز والمؤثر الاول الذي دفع السياب ليكتب هذه الاناشيد المتألمة والممتلئة بالرجاء والمناداة والتوسل في بعض الاحيان.
يفسر الحزن في المشاعر البشرية انه حالة الاكتئاب والبؤس والالم والعبوس والخيبة والخسارة لما قد يصيبنا في الحياة جراء رد فعل لخسارة ما .
السياب عاش جميع هذه الانواع من الحزن ، ولم يتصنعهُ ،بل ان هذا الحزن تشابك في اعماق روحه بفعل مقدرات حياتية ونفسية لا تحصى ابتداء من العوز وانتهاء بصورة الوجه .
وربما هذا الحزن السيابي هو من بعض ردود افعال تلك العظمة التي صنعها ما انتجه السياب لكنه لم يكن راضيا على تعامل المجتمع معها ، فكان لا يملك الحول ولا القوة سوى بتلك المناجاة مع نفسه او مع الرموز الاسطورية او مع اناث تعلق بهن لكنه لم يحصل على اي واحدة منهن .وربما قصيدته ( شباك وفيقة ) اقرب الادلة واشهرها على مثل تلك الخيبات الروحية التي صنعت الحزن والعلة في ذاكرة وجسد الشاعر بدر شاكر السياب كما في الصورة ادناه من شباك وفيقة :
((أطلي فشّباكك الأزرق سماء تجوع .. تبيتنه من خلال الدموع
كأني بي ارتجف الزورق .. إذا انشق عن وجهك الأسمر
كما انشق عن عشتروت المحار ..و سارت من الرغو في مئزر
ففي الشاطئين اخضرار ..و في المرفأ المغلق تصلّي البحار
كأني طائر بحر غريب طوى البحر عند المغيب ..و طاف بشبّاكك الأزرق))
لا أدري ان كانت وفيقة او غيرها من النساء اللائي تناهى لديهن صدى ضربات قلب الشاعر على شكل سمفونيات رومانسية من عذوبة شعر بث فيه لواعجه الى كل نظرة عميقة تحدق الى قصيدته ووجهه الصيني ، فكان اغلب هذا ينتهي الى لحظة حزينة لأنه لم يحصل على مبتغى الحلم في عشقه المتكرر لأكثر من امرأة واغلبهن من كن معه في دار المعلمين العالية ، وبالأخر ليس هناك سوى اقبال أم اولاده من جاورته الحياة في حلوها ومرها واخرها لوعته لها في زيارتها له في مشفاه الفرنسي قوله :
( لو جئت في البلد الغريب الي ما كَمُلَ اللقاء
الملتقى بك والعراق على يدي هو اللقاء ).
حمل السياب بضاعة حزنه في كل تنوعاتها واثقالها ، وعكس عليها جميع ما سكنه من موهبة وتجديد في التوظيف الواقعي والاسطوري والرومانسي ، ليمثل هذا شيء من صفات الشاعر وتكوينه الروحي والجسدي ، ولكنه مع هذا الحزن انتج لنا دهشة من طراز خاص وروائع كانت بمثابة معلقات في تاريخ الشعر الحر في العراق والوطن العربي. حتى لا ترى مساحة لابتسامة مفتوحة الاذرع في اي من قصائده وإنما صبغة الحزن تتشكل فيها من قصد ومن دون قصد.
حزن السياب هو حزن قصيدته ، وحزن روحه وكأنه مجبول مع هذا الشعور والمسحة الكئيبة منذ ولادته ، وربما بدون تلك الصبغة الحزينة لا طعم ولا خصوصية ولا دهشة لعالمه الشعري ، لأن تلك النبرة في صوته وحروف قصيدته مثلت حقيقة مشاعره وتفاصيل فصول حياته كلها من ذكريات منزل الاقنان وحتى سعاله الدموي على سرير الليلة الاخيرة في المستشفى الاميري في الكويت.
أعتقد ان السياب هو حفيد حقيقي ووريث شرعي للحزن الاول الذب امتلكه كتبت الاساطير والمراثي ايام سومر القديمة ، وربما هو متناسل من تلك الاحاسيس التي تضج بالصراخ والحزن لحظة نفاذ الهواء داخل القبو الذي يدفن فيه الملك السومري في اور ويصطحب معه خدمه وحشمه من الاحياء ليخدموه في العالم الاخر وليؤنسوا نومته الابدية بالعزف في القيثارات.
والذي يقرأ شعر السياب من الباطن الذهني يكتشف تماما هذا الترابط بين اناشيده وبين تلك الاناشيد التي كتبها الشعراء والكهنة والملوك والجنود وتحولت على الواح الطين الى اساطير وملاحم وادعية وتطورا مع التطور الحضاري لشعوب المنطقة لتصعد ذات المراثي اعالي الفرات وتصبغ قداساتها ومزاميرها ومدونتها في الحضارات الاخرى اعالي الفرات والنيل والامكنة الاخرى.
حون السياب هو حزن حياته هو ، وظفه احسن توظيف ليرينا تراثا ساحرا من دهشة القصيدة وجمالها . ليجعل من هذا الحزن الذي لازمه بقدرية عجيبة وكأنه الامتحان الالهي الذي لم يرحمه بهناء إلا عندما اغمض عينيه راحلا عن الحياة.
رؤى الحزن في شعر السياب أعطته للقارئ والدارس قناعة ان هذا الحزن هو عدة الشاعر ووقوده ، وهو لم يجلبه قصدا لتتميز تجربته من خلاله إنما هو قدرية حسبت له لتظل ملازمة كل حياته من المهد الى اللحد.
هذا الحزن .وهذا الشاعر . وتلك قدرية ما استحق وعاش لتظل تلك النبرة الملازمة الابدية له والتي قد لانعرف بدر السياب من دونها ، والخاتمة هذا النص من قصيدته ( اسمعه يبكي ) لنرى مقدار ذلك الحزن الذي يلون ويصبع روحه وجسده ، فيبدو ثقيلا ولكنه تحمله برضى وقناعة كما تحمل سيزيف حمل الارض على اكتافه:
(( أسمعه يبكي يناديني في ليلي المستوحد القارس
يدعو أبي كيف تخلّيني وحدي بلا حارس
غيلان لم أهجرك عن قصد
الداء يا غيلان أقصاني
إني لأبكي مثلما أنت تبكي في الدجى وحدي
ويستثير الليل أحزاني
فكلما مرّ نهار و جاء ليل من البرد
ألفيتني أحسب ما ظلّ في جيبي من النقد
أيشتري هذا القليل الشفاء ؟
سأطرق الباب على الموت في دهليز مستشفى
في البرد و الظلماء و الصمت
سأطرق الباب على الموت
في برهة طال انتظاري بها في معبر من دماء))