هل بدأت حرب المياه بصورة واضحة يقينية لا تقبل الشك ؟ هذا السؤال يتم طرحه وتداوله بشكل لم يعد حصريا منذ إعلان دولة إثيوبيا بدأ ملء سد النهضة الذي بات معروفا بأن أيادٍ صهيونية هي التي وقفت وراء إنشائه من أجل تضييق الخناق على مصر تحديدا ، وإعادة فكرة السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وفق إحداثيات كانت موجودة ومحفورة بذاكرة التاريخ المعاصر ، وصار مشهد شبكات التواصل الاجتماعي اليوم بمثابة ساحة حرب افتراضية ضمت الوطني المخلص لوطنه وبلاده ، والخائن الذي يظهر شماتته بحق الوطن غير مبال بنظرتنا السلبية له ، والمترقب للمشهد وهو غافل عن خطورة مسألة المياه طالما يراها تنهمر بغير انقطاع من صنبور دورة مياه منزله البسيط .
وربما أدعي ظنا أن إثيوبيا الفقيرة اقتصاديا والمضطرمة بأحداث سياسية ملتهبة ومشتعلة على الصعيد السياسي والمجتمعي الداخلي لم تفكر في مستقبل أيامها بعد بناء سد النهضة وعملية امتلائه بالمياه ، وعادة دول إفريقيا ترتبط أكثر بماضيها ويعيقها منطق استشراف المستقبل أو المشاركة فيه باستثناء دول بعينها من بينها بل أولها مصر التي طالما تفكر في مستقبلها بنفس القدرة والكفاءة في التفكير بحاضرها .
فبغير عودة إلى التذكير الذي بات مكروراً وباهتاً بأن ذاكرة المصريين مصابة بالتجاهل عن عمد وقصد ، فأيامنا جميعها تؤكد هذه الحقيقة التي لم تعد بحاجة إلى دراسات متخصصة وأبحاث كاذبة أكاديمياً يقوم بها أساتذتنا الأماجد والأفاضل الذين يتفوقون فقط على أنفسهم من أجل تقلد منصب غير ذي دلالة تذكر . لذلك فمن الأحرى الدخول مباشرة إلى موضوع تتعلق أحداثه في عام 1997 ، تحديداً حينما نشرت جريدة ( وول ستريت جورنال ) خبراً يشير إلى أن دولة أثيوبيا أنجزت للتو أكثر من مائتي سد صغير من أجل احتجاز 623 مليون متر مكعب من مياه نهر النيل ، وأضاف محرر الخبر الصحفي أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية هي التي ساهمت في تمويل سبعة سدود منها . انتهى الخبر .
لكن عقب انتهاء أثيوبيا من تشييد وبناء سد النهضة راحت تروج لجذب الاستثمارات الأجنبية الطامعة في المياه لاسيما تركيا والكيان الصهيوني إسرائيل وبالطبع الولايات المتحدة الأمريكية ، وأن أثيوبيا الآن بإمكانها إقامة مشروعات كبيرة الحجم لزيادة النسبة المحتجزة من مياه النيل وكانت منها إنشاء ما يعرف حاليا اليوم بسد النهضة.
وبفضل سنوات حكم مبارك ونظامه السياسي المترهل والذي كان غائبا غيابا مطلقا ومستدامًا عن المشهد الأفريقي خصوصاً ، والعالمي بوجه عام لأنه ونظامه ومعظم أفراد سدنته وكهنته كانوا مغرومين بتجريف الثروات والعقول في الداخل لم يكترث لهذا الخبر ، بل ربما لم يلتفت إليه هو ونظامه الأمني آنذاك لاسيما وأن الذي أشار إلى هذا الخبر وقتها المفكر المصري الماتع والرائع الدكتور مصطفى محمود صاحب البرنامج التلفازي الأشهر ” العلم والإيمان ” محذراً الحكومة المصرية وقت غيابها وغيبوبتها لهذه الإجراءات في مقالةٍ بعنوان ( عملية التفاف ) ، لكن لأن النظام الحاكم وقتئذ كانت لديه ثمة حساسية تجاه أصحاب الرأي والفكر بل والعلم أيضا من أمثال مجدي يعقوب وفاروق الباز وأحمد زويل وغيرهم ، احتجبوا الخبر والكاتب أيضاً عن بؤرة الاهتمام لأنهم كانوا وقتها مشغولين باستعدادات المنتخب المصري للعب في نهائيات كأس الأمم الأفريقية في بوركينا فاسو في العام التالي رغم أن خيباتنا الرياضية لا تعد ولا تحصى رياضيا .
ولم يدرك مبارك الذي أصابته غفلة البحث عن ثروات البلاد والعباد أن هذه السدود استهدفت في المقام الأول إفشال مشروع توشكى الذي فشل بالفعل والذي بدا الرئيس المصري الوطني عبد الفتاح السيسي إحياءه من جديد بعزيمة وصدق وتحدٍ أيضًا ، ولم تدرك حكوماته ـ مبارك ـ المتعاقبة العاجزة عن التخطيط والتنفيذ أن حرباً مائية سوف تأتي في القريب ، بل ولم يقرأ أحد من المستشارين والخبراء بمؤسساته الضاربة في الانتشار تقرير هيئة الأمم المتحدة عن الفقر المائي وأزمة المياه في الشرق الأوسط الذي نشر في كافة الدول العربية مترجمًا عدا مصر المحروسة ، وليتهم استعانوا بالعارفين وقتها ليقولوا لهم بإن كل آت قريب .
وكم غريب أن تتجاهل كل الحكومات فترة مبارك الطويلة تاريخيا وهي نصف فترة جلوس رمسيس الثاني على حكم مصر ، رغبة ونوايا إسرائيل الخبيثة في أنها تسعى للتحكم في مياه المنطقة ، وأن لديها أطماعاً مائية وأن الحرب التي بدأت عسكرية وقتالية لابد وأن تتحول سريعا إلى حرب إلكترونية ومناورات تتحكم فيها الشائعات والفتن ، وصولا إلى معركة مائية شرسة وضارية دون أن تكون أحد عناصرها بل الظهير المخفي الذي لا يظهر علانية.
والمدهش أن مصر وقت نشر مقال العالم المفكر مصطفى محمود لم تتجاهل الخبر فحسب ، بل خرج بعض السدنة ليؤكدوا أن هذه الأخبار مجرد أكاذيب وأنها ليست صحيحة وربما هي بعض من تخاريف المفكر الكبير الدكتور مصطفى محمود وبعض من هواجسه وظنونه الضاربة في التخييل .
ولما زاد الخبر شيوعاً وتداولاً قررت الدولة ساعتها الإعلان بأن هذه شائعات مغرضة هدفها شيوع القلق والتوتر والاضطراب الداخلي ، وهي عادة النظام السياسي الأمني الذي استخدمه مبارك بجدارة حتى ساعات قبيل سقوطه الشعبي في الحادي عشر من فبراير 2011 . وكم من كاتب ومفكر وطني مخلص أرسل للرئيس الأسبق المخلوع حسني مبارك أكثر من رسالة وبرقية ومقالة لم يطلع إليها من الأساس تفيد أن هناك حرباً مائية قادمة ، وأن ثمة مؤامرات تحاك في منطقة الشرق الأوسط من أجل التحكم في مصادر ومنابع المياه تحديداً مياه نهر النيل شريان الحياة المصرية .
ولا عجب في أن مناهجنا التعليمية هي التي أودت بنا إلى هاوية سحيقة بشأن ملف المياه ، لأنها ظلت ولا تزال تتحدث عن نهر النيل باعتباره أحد أبرز المظاهر التاريخية أو مجرد ملمح جغرافي يتوسط مصر المحروسة من حيث الطول والعمق ومساحته ومنابعه دون أدنى إشارة إلى أن نهر النيل يقع في منطقة شبه جافة من الكرة الأرضية الأمر الذي لم يسمح للطلاب بالتفكير في مستقبلهم المائي ، وكل كتب الجغرافيا بمراحل التعليم في مصر لم تشر أبداً إلى أن هناك هيئة مائية تسمى ( الهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل ) التي تم إنشاؤها طبقاً لاتفاقية مصر والسودان في عام 1959 ، ونجحت هذه الهيئة في إقرار مشروع مشترك مع تنزانيا وأوغندا وكينيا في عام 1967 ، وسمي المشروع آنذاك بمشروع ( الدراسات الهيدرومترولوجية لحوض البحيرات الاستوائية ) . وربما إغفال الإشارة التاريخية لهذه المشروعات الأجيال والحكومات نوعاً من الطمأنينة تجاه مياه النيل التي ستصل حتماً إلى مصر مما جعلنا لا نفكر أبداً في الاستفادة بالهدر المائي .
ومشكلة مصر المزمنة أنها دائما تقف عند حدود الاتفاقيات ولا تفكر أبداً في تجاوز التفكير فيما ورائها ، فعلى سبيل المثال اشتركت مصر في منظمة ( الأندجو ) بناء على اقتراحها وبتأييد من السودان قبل أن تتفتت وتنقسم إلى دويلات وطوائف شتى في نوفمبر 1983 وبالمناسبة لا توجد أية إشارة إلى هذه المنظمة بكتب الجغرافيا أو التاريخ ، وأهداف هذه المنظمة هي التعاون والتنسيق والتشاور انطلاقاً من خطة عمل ( لاجوس ) في 1980 والتي أكدت أن الأنهار الأفريقية تعد بمنزلة جزء من البنية الأساسية الضرورية للتعاون الإقليمي . ومن أبرز إحداثيات هذه المنظمة هو التأكيد على أن حاجة أوغندا وأثيوبيا إلى المياه قليلة وغير ذات أهمية مقارنة بمصر والسودان ، وترتب على ذلك قيام مصر بتوفير طاقة نظيفة لأوغندا وأثيوبيا بأسعار زهيدة مقابل المياه .
ولأن مبارك أصابته عقدة أثيوبيا بعد محاولة اغتياله في 1996 في أديس أبابا فقد أغلق بالمرة كافة أبواب التعاون المائي المشترك مع أوغندا وأثيوبيا في الوقت الذي هرعت فيه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إسرائيل في القفز على منابع النهر وتقديم ثمة مقترحات وتشييد مشروعات مائية بهدف التحكم في المياه بالمنطقة . وفي الوقت الذي اهتم فيه علماؤنا الجغرافيون بالدراسات والأبحاث التنظيرية والتي يمكن توصيفها بالكذب العلمي لأنها غير استشرافية نجح علماء إسرائيل في تقديم مقترحات عملية وإجراءات تسمح لتلك الدول المائية في استغلال المياه بصورة جيدة وذهبنا نحن بأوراقنا وأبحاثنا تجاه الريح العاتية نبرهن على الحق التاريخي ، وعلى ضرورة الشراكة المائية ، وطبيعة العلاقات الأفريقية المشتركة ، وكل هذه الدعوات لا تحقق إضاءة كافية لأوغندا وأثيوبيا .
ولأننا لا نقرأ الأيام السالفة بوضوح ، فإن أثيوبيا أعلنت في السادس والعشرين من فبراير عام 1956 في جريدتها الرسمية ( إثيوبيان هيرالد ) أنها سوف تحتفظ لاستعمالها الخاص مستقبلاً بموارد النيل وتصرفاته في الإقليم الأثيوبي أي باختصار نسبة 86 % من إيراد النهر بأكمله . وقامت بتوزيع منشور رسمي على كافة الجعات الدبلومسية في القاهرة آنذاك تضمن بحق أثيوبيا في احتفاظها بحقها الكامل في إيراد النيل . وماذا فعلت مصر حينئذ ؟ صمتت وتجاهلت وكانت النتيجة هي وجود أزمة مائية اليوم ولا حرج على نظام مبارك ألا تستفيق إلا متأخراً على كارثة ، وظلت الحكومات المصرية تكذب على نفسها أولاً وعلى شعوبها بأن مياه النهر ستوزع بين دوله بالتساوي وهذا بالتأكيد أشبه بتلك الدراسات الجغرافية المصرية .
وظل الجغرافيون وعلماء الزراعة والري في مصر يرهقون أذهاننا بشعارات ثلاثة : ترشيد استهلاك الموارد المائية المتاحة ،وتنمية الموارد المائية المتاحة ، وإضافة موارد مائية جديدة ، ومثل هذه الشعارات الباهتة باتت تكرر في كل مناسبة وكل صفحة بكتب الجغرافيا التي فقدت المعاصرة وبعدت تماماً عن الواقع المشهود وأصدق تعبير يمكن توصيفها بأنها جغرافيا تاريخية لا صلة لها بواقع محموم مضطرب . وظلت هذه الدعوات تدغدغ أعصابنا ومسامعنا والكيان الصهيوني يعبث حقاً بمياه النيل لصالح أطماعه الاستراتيجية في المنطقة ، وراح كل خبير في مصر يقرر أنه لابد من رفع كفاءة وصيانة وتطوير شبكات نقل وتوزيع المياه ، ولا مياه بالفعل موجودة ، وأخذ المصريون يزحفون وراء المشروعات المائية التي تستهدف تطوير نظم الري مثل الري بالرش والري بالتنقيط ومصر في الواقع تبحث عن نقطة مياه نظيفة صالحة للشرب الآدمي .
وأصبحنا اليوم بين بدائل غير ممكنة على صفحات التواصل الاجتماعي منها التدخل العسكري ، ولا أفطن مع من وكيف وضد من ؟ ،والتشاور والتحاور في الغرف المغلقة ، أو تقديم مشروعات مجانية لدول حوض النيل من أجل استجداء نقطة مياه ، ورغم كل هذه الحلول لا يزال الجغرافيون ينظرون ، وعلماء وخبراء الري يخططون والفلاحون ينتظرون ، والمصريون سيعطشون ، والخريطة بالفعل تتبدل .
وبغير اكتراث عما سيتناوله السياسيون المصريون والعرب الذين اتسموا اليوم بالبلادة والخيبة في تحليلاتهم للأحداث الراهنة واستشراف ما ستسفر عنه الأيام المقبلة ، فإن ما أتوقعه أن جامعة الدول العربية ستقرر عقد اجتماعا طارئا وعاجلا لبحث مشكلة المياه ، وستطلق عليه المؤتمر المدجج والخطير وربما الفظيع أيضا ظنا منها أن شعوب الدول العربية مهتمة بأعمال ومشاهد ومساجلات الجامعة ، وهي بذلك ستعود لسالف عهدها في مناقشة القضايا الأكثر خطورة وأهمية ، رغم أن الجامعة نفسها هي التي أهدرت من قبل الحق الفلسطيني حتى وإن كانت أعمال قمم جامعة الدول العربية وبياناتها الختامية تحدثت عن فلسطين والقدس وعمليات الاستيطان الإسرائيلي وهذا ليس بجديد أصلاً .
وأظن أن جامعة الدول العربية ستعلن في الأيام القريبة عقد قمة عربية عاجلة جدا لمناقشة أزمة المياه وبدء ملء سد النهضة الأثيوبي بالمياه ، ثم ستتطرق القمة الافتراضية إلى الحديث مجددا عن الأوجاع الفلسطينية ، وستسعى في نهاية الأمر إلى نسيان الصراع العربي الصهيوني إلى مصالحة فلسطينية فلسطينية من أجل رحمة العباد والبلاد من الحكي البليد عن حق الشعب الفلسطيني المكلوم ، أؤلئك الذين يعيشون فقط في فلسطين أما المرتزقة الذين يتاجرون بالوطن ويعملون بكافة دول النفط ويجترون ذكريات كاذبة خادعة لم يشهدوها بأعينهم ويكنزون أموالا طائلة بالجامعات الخليجية والمؤسسات العربية عليهم أن يوجهوا أموالهم لخدمة وطنهم الحقيقي فلسطين .
وتذكر ذاكرتي طويلة المدى في أثناء عملي بإحدى جامعات الخليج العربي في بدايات القرن الحالي بعض الوجوه الفلسطينية التي كانت تتاجر بقضية الوطن الفلسطيني ويحملون بطاقات مصرفية بالقاهرة ودبي والرياض . ولقد رأيت بعيني في أثناء عملي محاضراً بإحدى الجامعات الخليجية منذ سنوات بعيدة موقف بعض الأكاديميين الفلسطينيين إزاء وطنهم الذي لا يعلمون عنه شيئاً سوى الاسم والهوية التي صارت متعددة؛ سورية مرة ومرة أخرى أردنية وكثيراً مصرية. وهم لا يقتنعون أساساً بضرورة العودة إلى فلسطين أو إقامة مشروعات اقتصادية هناك لأن هذا هو عين العبث ذاته من وجهة نظرهم. بل وإن معظمهم ممن رأيت منفصلون تماماً عن المشهد الفلسطيني الداخلي سوى المتابعة التليفزيونية للأحداث هناك أما المشاركة فغائبة تماماً.
ورغم كل هذا ، فأنا هذه المرة على ثقة بالنظام المصري الواعي إزاء مشكلة المياه وخصوصا أنها أصبحت مشكلة شعبية ، وأظن أن اهتمام القيادة السياسية المصرية بهذا الملف الشائك والراهن أصبح من أولويات الأجندة السياسية المصرية اليوم ، بغض النظر عن الطروحات الإلكترونية التي يطلقها الشباب بغير دراسة ، فقط الأمر يحتاج إلى عمق في الدراسة ويقين في اتخاذ القرار.
ورغم أن مصر اليوم باتت تحارب في مناطق شتى وتواجه ثمة مخاطر داخلية وأخرى خارجية فإن الإدارة المصرية لن تقف عاجزة عن حقها المائي ، وأن السياسة المصرية المعاصرة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي أكدت امتلاكها حلولا سريعة ناجحة في علاج المشكلات التي تطرأ على مشهدها السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، وربما جديد الدولة المصرية الراهنة أن الشعب يؤكد في كل فرصة سانحة وقوفه بجانب الدولة ورئيسها وإعلانه شبه اليومي التلاحم القوي بالدولة في مواجهة الأزمات .
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية ( م ) .
ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا .