في بادرة جديرة بالاحترام والوقوف امامها قامت بلدية السماوة بأطلاق اسم الشاعر ( يحيى السماوي ) على احد اهم شوارعها وبهذه المناسبة السعيدة سأطلعكم على شيء يخص يحيى ..
يقول يحيى :
أخبرني أبي أنه في ظهيرة يوم 16/3/1949 إنتقلتُ من رحِم أمي الى صدرها ، في بيتٍ من بيوت طرف الغربي المتلاصقة الجدران تلاصق قطيع ماعز تكتظ ُّ به شاحنة نقل مكشوفة .. البيت كان بيت جدي لأمي ” رزاق عباس ” والذي كان أبي يعمل معه كإبن أخ في حانوت البقالة الصغير .. في هذا الزقاق المتلاصق البيوت ، والقريب من نهر الفرات ، بدأتُ الحبو والركض ، ومن طينه صنعتُ أول دمية ، حتى إذا كبرتُ قليلا صرت أذهب مع أمي الى النهر لنعود منه حاملين أواني الماء على رأسينا … وعن الفقر والفقراء يدلي باعترافه التالي : قد لا أكون مبالغا في قولي إنني لم أعش الطفولة كما يجب أن تعاش ، ولسببين جوهريين ، الأول هو أنّ الفقراء لا طفولة لهم إذ غالبا يبدؤون الشيخوخة مع بدء الصبا والفتوة وهم يرون أترابهم أبناء الأغنياء يركبون ” البايسكلات ” ويلبسون الدشاديش الجديدة والبنطلونات والقمصان الجديدة ويجلبون معهم في حقائبهم المدرسية ” الجكليت والكعك والتفاح ” بينما نحن أبناء الفقراء ننتظر يوم العيد لنلبس دشداشة جديدة أو قميصا جديدا ، ولا نحمل معنا في الكيس ـ الذي تصنعه أمهاتنا كحقيبة مدرسية ـ غير البلح الرخيص أو قطعة خبز . والسماوي الذي لازالت ذاكرته تحتفي كل يوم بما تربع فيها من ذكريات احتفظت بطراوتها وحضورها وقد تتقدمهما قصة اول حب تسرب بهدوء الى قلبه فاحاله الى مكان صاخب لايقر له قرار ولايعرف الاستقرار وبما ان الزمن كان وليدا يحبو في مجال التكنلوجيا ولم يكن هناك وسائل اتصال مثل التي ينعم بها ابناء هذه الاجيال كان يحيى مضطرا للبحث عن وسيلة يوصل بها حبه ولواعجه وشوقه للحبيبة ولن الحب هو السلطان والدكتاتور الذي يفرض نفسه على يحيى اهتدى العاشق الى وسيلة لم تخطر على بال عشاقا سبقوه فأخذ يجمع علب الكبريت ( الشخاط ) الفارغة ليحولها الى علبة يضع بها بيتا او اكثر من شعر كتبه خصيصا لها ثم ينتظر اوبتها ليرميه في طريقها او يرسله بيد طفل لايعرف ماذا يحمل في يده . واترك يحيى يتحدث عن تلك اللحظات الكبيرة في حياته ويقول : يراودني الشعور بأن الفقراء أكثر اهتماما وحبا للشعر من الأغنياء … ربما الصعاليك أكثر طيبة من الأباطرة .. أو لأن عروة بن الورد والشنفرى مثلا أكثر حبا للناس من ملوك عصرهما ( بالمناسبة : أظنك مثلي لا تعرف أسماء ملوك ذلك العصر بينما تحفظ عن ظهر تبجيل أسماء عروة بن الورد والشنفرى ) . هذا الشعور تأكد لي حين اعتزمت نشر أول مجموعة شعرية لي وأنا لمّا أزل طالبا في مرحلة الدراسة الثانوية وبتشجيع من مدرس اللغة العربية في ثانوية الجمهورية في الديوانية الأستاذ حاكم مالك الزيادي … لم يكن يعرف أن مبلغ خمسين دينارا ـ ثمن طباعة الديوان ـ كان مبلغا خرافيا بالنسبة لطالب بالكاد يوفّر له والده البقال مبلغ إيجار غرفته في فندق رخيص وطعامه اليومي . ويذكر الشاعر يحيى السماوي بشغف لحظات انتمائه للحزب الشيوعي وهو يضع اولى خطواته على ابواب الدراسة ( الاعدادية ) ويقول : ( دخلت حديقة اتحاد الطلبة وأنا في الثالث المتوسط فانبهرتُ بشذاه لأجدني قبل نهاية العام الدراسي قد تقدّمتُ بطلب أستجدي فيه قبولي فلاحا في بستان أحفاد عروة بن الورد وكنت قد هيّأت نفسي للإمتحان بعد قراءتي وحفظي عن ظهر عشق كتابات الـ ” فهد ” يوسف سلمان يوسف وقرأت الكثير من موجودات مكتبة زوج شقيقتي الشهيد المناضل إبراهيم الحساني ” أبو نوفل ” … ولم تمض غير أسابيع قليلة من بداية العام الدراسي الجديد في الصف الرابع الثانوي حتى حط هدهد البشرى على كتفي حاملا لي بشارة الموافقة على طلبي فرددت القسم في أحد بساتين السماوة واستلمت بطاقة عضويتي كمواطن في مدينة العمال والفلاحين الفاضلة …. يومها شعرتُ أنّ فسيلتي غدت نخلة وأنّ الفتى الذي كنته قد أصبح رجلا لا يخشى في حب الفقراء والكادحين لوم مُتخم وسياط جلاد !) .. لم ينتبه الا على طرق صديقه على كتفه وهو يلهث تعبا ويشرح له كيف سارت الامور في المدينة بعد اجتياحها من الجيش القادم من محافظات شتى ووصف له كيف كان الجنود يوزعون رصاصهم بالمجان ويقتلون البشر والحيوانات بنفس الطريقة وتوقفهم عند وصولهم الى بيته وسؤالهم عنه باسم ( خطيب الغوغائيين ) وقال : طوقت البيت مجموعة من الجنود والضباط ومعهم جرافات وبيد احد الضباط صورتك واسمك الثلاثي وكنت قبلها اوصلت زوجتك وطفليك الى بيت خالهم في منطقة البساتين وسأل الضابط عنك فاجابته احد عيونهم المرافقين لهم من اهل المدينة انك كنت هنا قبل اقل من ثلاث ساعات وكنت تشكو كسرا ً في يدك واضاف قد يكون مات عند مدخل المدينة لان البعض سمعه وهو يطلب من الذين معه الذهاب الى المدخل وغلقه بوجه الجيش الغازي ولو بالاجساد ثم امر الضابط بتفتيش البيت وقتل من فيه ان وجد . بعدها خرج المفتشون واعلنوا ان لا احد فيه .
. قضى ليلته متحملا برد الصحراء والام حرائق مدينته وخوفه على مصير عائلته وبقية اصدقائه بجانب الدبابة الامريكية التي وفرت له امانا اضطراريا انتظارا لنهار قادم يستجلي فيه مايقوم به الجيش المستبيح للمدينة من اعمال وفي ساعات الصباح الاولى وصلت الاخبار عن قيام الجيش بمعاونة الرفاق البعثيين بتهديم الكثير من البيوت وقتل كل من يقف في طريقهم او يعارضهم واعتقال المئات واصدار قوائم تحمل اسماء كل من شارك بالانتفاضة اضافة لصور البارزين منهم وتشكيل مفارز للبحث عنهم في احياء المدينة والبساتين المحيطة بها ووزعت صورهم على سيطرات الجيش والشرطة ومفارق الطرق والفرق الحزبية ونشط البعثيون بالبحث عن الجميع وفي حالة عدم الامساك بالمطلوب يعتقل اهله وذويه ويودعون السجن حتى يتم الاعتراف على مكان اختبائه لذا اصبح لزاما عليه اتخاذ القرار الصعب ومغادرة السماوة والاتجاه جنوبا نحو سفوان حيث تتمركز القوات الامريكية وسار تحت جنح الظلام كسير اليد والفؤاد ،عين على السماوة واخرى على سفوان التي وصلها بعد أكثر من ليل طويل سار فيه مع الموت جنبا الى جنب .. هذا الموت المتمثل بحيوان ضارٍ او بلغم زرع تحت طيات الطريق او برصاصة جندي امريكي او من رفيق حزبي ترصد طريق الهاربين من الجحيم .
شكرا لبلدية السماوة التي اعادت ليحيى جزء من حقه واطلقت اسمه على احد شوارعها .