ليس السفليون* وحدهم من يريد ان يرجع عقارب الساعة الى الف واربعمائة سنة ونيف لكي نحاكي ثقافة زمن الرسول (ص) والصحابة والتابعين وتابعي التابعين بوصفها افضل الأزمنة . محاكاة شكلية للعادات والقيم والسلوك والأعراف بعيدة عن أي تطبيق عملي واقعي استعمالي وظيفي حقيقي ، بل هناك مثقفون ونقاد وادباء وشعراء واساتذة جامعيون يفعلون الامر نفسه ولكن من زاوية أخرى لا تقل خطورة عما يفعله السفليون. يروم هؤلاء الى لجم فمك من ان يتكلم بعفوية فرضتها عليك الاستعمالات اللسانية واللهجة المحلية في الحياة اليومية الاجتماعية من اجل ان تتكلم بلسان الموتى الاسلاف الذين سكنوا البيد والفيافي. ويصرون على ان تتكلم بلسان طي وهذيل وعبس وذبيان على الرغم من ان تلك القبائل وغيرها كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة ولم تتكلم الفصحى المكتوبة في كتب التراث .
السلفي المتدين ينصب نفسه حاكما باسم الله ليس بسبب ادلة علمية يمتلكها بل بسبب ادعاء يعتقد به وهو : انه الوحيد الذي يستطيع ان يفهم النصوص ويضعها في حقولها الدلالية الصحيحة فيكفر الخلق امرا ناهيا قائلا: افعل هذا ولا تفعل ذلك. انها ابوية مطلقة وتصرف متسلط وكانه المالك الاوحد للحقيقة. ويعتقد معظم الدارسين ان السلفية مصطلح يعمل ضمن الخطاب الديني فقط لكن الوقائع تؤكد ان السلفية مصطلح يمكن تعميمه ليشمل فروعا معرفية وثقافية وادبية واجتماعية فضلا عن اللغوية والنحوية. فعلى سبيل المثال نجد بين الحين والاخر اشخاصا افنوا حياتهم كلها في معرفة موقع (حتى) من الاعراب لكنهم لم يدركوا ذلك في نهاية المطاف ، فتحولوا الى وعاظ ينصحون الناس بقولهم : قل ولا تقل. قل : كذا وكذا ولا تقل : كذا وكذا. مستعملين الاسلوب الامر الناهي نفسه الذي يستعمله السلفي الداعشي.
السلفيون يعتبرون البخاري نصا مقدسا واراء ابن تيمية قرانا ثانيا وكذلك يفعل اللغويون والنحويون السلفيون الذين يعتبرون كتاب سيبويه قرانا نحويا لا يمكن الاقتراب منه ونقده.
الداعشي قد يقتل انسانا بسبب هفوة او ذنب صغير لا يقدح باركان الاسلام الرئيسة و لا يخرج المرء من دينه فيكفره . وكذلك يفعل السلفي اللغوي الذي يتهم الاخرين باللحن واختراق الاعراف اللغوية اذا لم يكتب المرء همزتي الوصل والقطع بشكل صحيح اوانه فتح عين الفعل بدلا من ضمها. هذا يتهم بالخطأ الفاحش على الرغم من انه يطبق معظم اساسيات اللغة والقواعد النحوية في كتاباته وكلامه.
السلفيون اللغويون يدرسون كتاب البيان والتبين للجاحظ على انه كتاب فصيح في لغته ومتميز في اسلوبه لكن الجاحظ نفسه لم يكن يكتب بلغة هذيل او عقيل وغيرهم من الأعراب ، كذلك لم يكن يعتني باللغة والالفاظ وصياغتها بقدر اعتنائه بالمعاني التي يجب ايصالها الى القارئ . فالصياغة اللغوية لم تكن همه الاول بل المعنى. والجاحظ نفسه له رأي في كتابه (كتاب المعلمين) يوصي بضرورة الابتعاد عن التعقيد في تعليم النحو والاخذ بنحو الاستعمال الذي يحتاج له المتعلم في حياته اليومية العملية فقال : واما النحو فلا تشغل قلبه من الا بقدر ما يؤديه الى السلامة من فاحش اللحن ، ومن مقدار جهل العوام في كتاب ان كتبه ، وشعر ان انشده، وشيء ان وصفه، ومازاد على ذلك فهو مشغلة عما هو اولى به ومذهل عما هو ارد عليه منه من رواية المثل الشاهد ، والخبر الصادق والتعبير البارع…وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا يضطر اليه شيء. فمن الرأي ان يعمد به في حساب العقد ( حساب العقد ضرب من الحساب يكون باصابع اليد ويقال له حساب اليد.. وقد الفت فيه كتب واراجيز ).
وعندما يتكلم السلفي الداعشي يعمد الى استعمال اللغة العربية الفصحى ظانا انه يتكلم بلغة عصر الرسالة الصافية النقية من اللحن ولكنه يرتكب اخطاء فاحشة اذا ما تم تقويم كلامه على وفق القواعد النحوية والصرفية التي وضعها الاسلاف. وكذلك يفعل اللغوي السلفي حامل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وعلومها عندما يناقش طالبا في رسالته في الدكتوراه فيلحن في كلامه لحنا فاحشا فلا يرفع الفاعل ولا يجر المضاف اليه ثم يزعم انه سليل مدرسة لغوية ونحوية عتيدة.
السلفي المتدين يرى في احمد بن حنبل وابن القيم وابن عبد الوهاب أئمة منزهين عن الاخطاء ولايمكن انتقادهم وكذلك يفعل السلفي اللغوي الذي يقدس سيبويه والخليل والاصمعي والكسائي ولا يقبل ان ينتقدهم احد. انها سلفية شاملة ضربت اطنابها في كل ركن من اركان المعرفة والثقافة والسلوك واذا اردنا تفكيكها بوصفها فكرا هداما منقرضا فينبغي ان لا نفرق بين انواعها واشكالها واصناف معارفها المختلفة.
* لكي لايساء الفهم فاضطر الى التعليق والشرح والتبرير ، اعني بالسفلية اناسا يعودون الى الوراء بدلا من التقدم الى امام ، فهم يتسافلون بمعنى يرجعون الى الاسفل.
وشعراء وكتاب وجامعيون يفعلون الامر نفسه ولكن من زاوية أخرى لا تقل خطورة عما يفعله السفليون. يروم هؤلاء الى لجم فمك من ان يتكلم بعفوية فرضتها عليك الاستعمالات اللسانية واللهجة المحلية في الحياة اليومية الاجتماعية لتتكلم بلسان الموتى الاسلاف الذين سكنوا الفيافي والبيداء . ويصرون على ان تتكلم بلسان طيء وهذيل وعبس وذبيان على الرغم من ان تلك القبائل وغيرها كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة ولم تتكلم الفصحى المكتوبة في كتب التراث .
أقول لهؤلاء: ماذا لو تمت مطالبة الإنكليز المعاصرين ان يتكلموا بلغة شكسبير وان يستعملوا أسلوبه في الكتابة، كيف سيكون رد الانكليز؟