18 ديسمبر، 2024 7:43 م

السلة والعنب.. وضياعهما معا

السلة والعنب.. وضياعهما معا

لايخفى أن اعتماد التشكيل الهرمي في توزيع الدرجات الوظيفية بين منتسبي مؤسسات الدولة، له الدور الفاعل في تقديم الأفضل والأكثر جدوى والأعم نفعا، وسواء أكان ذاك الدور تصاعديا أم تنازليا في هيكل المؤسسة! فإن الالتفات الجاد اليه، وإيلاء كل فرد فيه اهتماما يناسب وظيفته، يفضي الى نتائج إيجابية، تلبي مجتمعة مامطلوب مرحليا من المؤسسة في دورها الخدمي، فيما تقدمه للمجتمع عامة وللأفراد على وجه الخصوص. ومن هذا المنطلق فقد نحت الأمم والدول لحظة إنشائها أو تأسيسها، الى اعتماد التشكيلات الهرمية في تقسيم الأدوار والوظائف والمهمات في مؤسساتها، فإذا كانت الإدارات تسير بخطى سليمة من حيث الجدية في العمل والإخلاص بأدائه، مع وضوح الأهداف، واتباع الخطوات الصحيحة بالسعي الى تحقيقها، فإن النتائج ستأتي حتما مثمرة، وهذا مانلمسه في الدول المتقدمة والنامية، إذ هي تحقق طفرات نوعية في رقيها، ماينعكس إيجابا على رفاهية شعوبها، مع دأبها على التطور المستمر مواكبة مع باقي أمم المعمورة.
في عراق مابعد عام تحريره من نظام دكتاتوري فردي الإدارة والتسلط وتشريع القرارت وتنفيذها، اتبع مشرعو دستوره خاصية التشكيل الهرمي في إدارة مؤسسات البلد أسوة بباقي البلدان، ولما كانت التجربة جديدة على العراق شعبا وأشخاصا حاكمين، فإن التلكؤ في إدارة مؤسساته، بدا واضحا منذ بزوع الخيط الأبيض من شمس الحرية التي أشرقت في سماء البلد ذاك العام، ولسوء طالع الشعب العراقي فإن الأشخاص الذين تولوا إدارة أركان الدولة ومفاصلها تشريعا وتنفيذا، فتحوا الأبواب على مصاريعها لمن يعيث بالتشكيلات الهرمية فسادا، وفسحوا المجال أمام إفرازات كالرشوة والانتهازية واستغلال المنصب، والمحاباة في المناقصات والمزايدات التي تعلن في دوائر الدولة، علاوة على آفة التحاصص وغول سيطرة الأحزاب النفعية في توزيع الأعمال، زامن هذا غياب الرادع التربوي والشعور الوطني والوازع الأخلاقي لمن يتسنم منصبا إداريا في مؤسسات الدولة، فإن طبيعة الحال وكمحصلة شرعية لتزاوج هذه السلبيات كلها، بعقد قران مبارك من قبل لجان الرقابة، ومعمد بتعويذات أرباب المفتشيات في الوزارات، أتى الوليد مشوها يحمل كل السلبيات بالوراثة، فترعرع بأحضان هي الأخرى قامت بالإجهاز على أي مظهر من المظاهر الصحيحة والإيجابية، فأضحت المؤسسة بعد كل هذا الجهد المشترك في الهدم، خربة تنعق فيها الغربان وتنعب فيها أبوام الفساد.
وأول المؤسسات والهيئات والتشكيلات المؤثرة في البلد التي اتسمت بكل ماتقدم من سلبيات، هي مجالس المحافظات والأقضية والنواحي، وأظنها هي السبب الأساس في التردي والتدهور والنكوص الذي أصاب جوانب البلد برمتها، فهي أول المؤسسات التي تتعامل مع المواطن مباشرة، وعلى محك معه في حياته اليومية، وهي حلقة الوصل بين متطلبات محافظته وقضائه وناحيته ومحلته من جهة، والحكومة المركزية من الجهة الأخرى، ولما كان الغراب دليل قوم، فإنه حتما سيدلهم على دار الخراب، ذلك أن هذه المجالس أضحت بفضل الأحزاب المهيمنة، اليد الضاربة على أم رأس المواطن، بدل تقديم الخدمات له.
أما الحل لمعضلة مثل هذه، فإنه لايتحقق بإلغاء دور تلك المجالس من أصلها، فوجودها ضروري كما هو معمول في البلدان المتقدمة، لكن غياب العقاب الصارم، وضعف تطبيق قوانين الانضباط الوظيفي، والتراخي في المحاسبة الآنية، وإغماض عين المفتشين وأعضاء لجان الرقابة ورؤسائها، كل هذه المعطيات كانت السمة الظاهرة والمتفشية في ساحة المؤسسات، منذ تشريع الدستور، مرورا بتشكيل الحقائب الوزارية بدوراتها الثلاث -أقصد مسرحياتها الثلاث- وصولا الى يومنا هذا، ما أسفر عن نتائج وخيمة، ترتبت على سوء إدارة المجالس لواجباتها، إزاء حقوق المواطن ومتطلباته.
أظن البحث عن حلول بعد عقد ونصف من رسوخ هذه المشاكل، وتجذرها في أرضيات مجالس المحافظات وفروعها، يتطلب بالدرجة الأساس أمرا واحدا لاغير، ذاك هو تفعيل مبدأ العقاب والعقاب والعقاب ثم الثواب، لاسيما وأن حيتانا وآفاتٍ تسلطت فيها، وامتدت أذرعها الأخطبوطية الى ما لاينفع معه كسر او بتر أو تصفيد، وقد صعب إيجاد الحلول الناجعة، واستحال الأمل المرتجى من تشكيل هذه المجالس، الى يأس وانقطاع رجاء، حتى بات المواطن المسكين يرتضي بأدنى حقوقه، وسعيد حظ إن حصل على عشر معشارها، وصار ديدنه ترديد بيت الأبوذية:
يصاحب شوف حالي سل منهم
وسؤالك عن اسبابه سله منهم
عنب ما اريد رايد سلة منهم
أداعي بسلتي وما تصح بديه