في كل مرة، وعندما يعتقد العالم بأن أوراق القضية الفلسطينية قد طويت وأصبحت ملفا مُغلقا ومختوماً بالشمع الأحمر ومركوناً على الرفوف العالية، وصار على الشعب الفلسطيني التسليم بقضاء الله وقدره، والقبول بالعيش تحت وصاية المنتصر الإسرائيلي، والاكتفاء بالبكاء على الأطلال المتبقية من فلسطين، يرتكب المستوطنون اليهود حماقة من حماقاتهم اللاأخلاقية فيفتحون أبواب جهنم جديدة على أنفسهم وحكومتهم، وعلى الشعب الفلسطيني، ويُثبتون للعالم أن فلسطين قضيةٌ حيّة لم تمت، ولن تموت.
فما فعله اليهود، حكومة وجيشا وشعبا، في القدس وغزة، مؤخرا، لا يمكن وضعه بغير خانةِ الغرور والغطرسة والغباء.
فالغارات الجوية والبحرية والبرية على المنازل والمؤسسات والمساجد والمستشفيات ودوائر الأمن في قطاع غزة، والمستمرة منذ أيام، والتي يرفض نتياهو وقفها، برهانٌ مؤكد على أن الثقة بإسرائيل سذاجة، وأن أوراق التطبيع القديمة والجديدة لم ولن تخفف من غلوائها وأطماعها، ولو بمقدار.
إن دموية نتياهو الجديدة قتلت الأحلام التي راودت المتفائلين العرب والأجانب في إمكانية أن تُسهل حفلات التطبيع الأخيرة ولادة سلام عادل وشامل يضع نهاية لعصور الغزو والاستيطان، ويجنب الفلسطيني واليهودي، معا، الخوف من الغد، وسيولاً من الدم والدموع.
ولو تُركت الانتفاضة الجديدة على عفويتها وشعبيتها وشجاعة جماهيرها، وبقيت بدون صواريخ، لحررت الملايين العربية من عقالها، ولأيقضت الأرض العربية والإسلامية بعد طول غفوة، ولحاصرت الإسرائيليين والأمريكان ومجلس الأمن الدولي الذي فقد البصر والبصيرة، وعرب التطبيع، ولأعادت فتح الملفات القديمة، ولابتدأ الحساب والكتاب.
ولكن الحرب التي أشعلتها كتائب القسام والجهاد الإسلامي التابعة لحماس الموالية لإيران ضد إسرائيل نتياهو عبثية استعراضية خاسرة، مقدما، لسببين،
الأول لأن هذه الحرب متهمة بكونها حرب النظام الإيراني المدان عربيا وإسلاميا بالقتل والاحتلال والاغتصاب، والمحمَّل بالمسؤولية الكاملة عن إشغال الجماهير العراقية والسورية واللبنانية واليمنية والخليجية عن القضية المركزية، فلسطين، والتفرغ لمعارك الدفاع عن نفسها ضد تدخلاته واعتداءاته الدموية التي لا يمكن غفرانها.
وكان متوقعا أن تتسبب هويتها الإيرانية المكشوفةفي فقدانها ما كان يلزمها من وقفة عربية ودولية صادقة حازمة شاملة تخلط أوراق القضية، وتجبر الجميع على العودة إلى العقل والعدل، ولو على مراحل.
والثاني لأنها أخرجت الانتفاضة الشعبية المدنية الفاعلة من كونها مواجهة عادلة بين شعب وبين سلطة غاشمة لا ترحم امرأة ولا طفلا ولا شيخا، وحولتها إلى حرب نظامية بين صواريخ وصواريخ، وبنادق وطائرات ومسيرات وبوارج، مع بقاء العامل الدولي منحازا لإسرائيل، حتى وهو يعرف أنها ظالمة، وأن ظلمها بلا حدود.
نعم، إن صواريخ حماس قتلت بضعة يهود ليس بينهم عسكري محارب واحد، وأطلقت صفارات الإنذار، وأرعبت المستوطنين، وأصابت بضع سيارات، وكسرت زجاج بضع منازل، إلا أن شهداءنا وجرحانا والمدفونين من أبنائنا وبناتنا تحت الأنقاض أكثر، وبالمئات. والأكثر إيلاما أنها تضحيات مجانية بدون ثمن.
إنها حرب إيرانية مع إسرائيل، ولكن بدم الإنسان الفلسطيني ورزقه وكرامته، لا من أجل محو إسرائيل، كما وعد الخميني ووريثه علي خامنئي من قبل ما يقرب من نصف قرن، ولكن لتحقيق حزمة أهداف سياسية توسعية طائفية عنصرية أنانية،
أولها للاستهلاك الداخلي. حيث أراد أن يقنع مواطنه الإيراني الغاضب على جبنه وعدم رده على مسلسل الغارات الجوية والبرية والبحرية الإسرائيلية المدمرة المُهينة على مجاهديه ومخازن سلاحه في سوريا والعراق ولبنان، وفي إيران ذاتها، ويقول له إنه ردَّ أخيرا من غزة بصواريخ إيرانية ولكن بأيدي وكلائه في جمهورية حماس.
وثانيها إشغال حكومة نتياهو وحملها على التوقف عن الضغط على إدارة بايدن لمنعها من العودة إلى الاتفاق النووي القديم دون تعديل، ومن رفع العقوبات وإطلاق الأموال المجمدة.
وثالثها الضغط على إدارة بايدن التي تشتهي العودة إلى الاتفاق النووي، دون تعديل، ولكنها محكومة بضغوط داخلية من بعض حزبها الديمقراطي، ومن كل خصمها الجمهوري، ومن حلفائها في المنطقة.
ورابعها إبطال أو تعطيل اتفاقات التطبيع العربية الإسرائيلية القديمة والجديدة، أو تعقيدها على الأقل، بجر نتياهو إلى حملات قمع وتدمير جديدة، ثم بتوظيف الغضب الشعبي الساخن الذي كان لابد أن يشتعل بسببها في دول التطبيع العربية ذاتها، وفي خارجها، على جرائم نتياهو ضد المدنيين الفلسطينيين.
وخامسها وقف الهجمات الإسرائيلية على مواقع الحرس الثوري والمليشيات، وعدم المغامرة مجددا بالتسلل إلى داخل إيران لممارسة الاغتيال أو لتفجير مواقع حساسة.
بصراحة ودون مواربة لقد كان الواجب الوطني والأخلاقي والجهادي يفرض على حماس، قبل أن تطلق صواريخها على مدن داخل فلسطين المحتلة، أن تسأل الولي الفقيه سؤالا محددا:
هل هو جاهز ومستعد لاغتنام فرصة الحرب الجديدة التي تنوي إشعالها فيعلن النفير العام ويقرر الدخول الشامل إلى فلسطين من، جوا وبحرا وبرا، من جنوب لبنان والجولان وغزة، بكل جيوشه وصواريخه ومسيَّراتها وبوارجه وطائراته ومليشياته العراقية واللبنانية والسورية واليمنية، ليجعلها الحرب الأخيرة التي يفي فيها، أخيرا، بوعده، فيحرر فلسطين من النهر إلى البحر، ويمحو إسرائيل في سبعة أيام؟. وهو الذي عودنا على خوض حروبه بالواسطة، ومن بعيد. فإن نجحت فهو صاحب نجاحها، وإن فشلت فهو لم يخسر سوى حزمة صواريخ وبعض الخام والطعام والمزيد من الخيام.
لكن العتب ليس عليه، بل على قادة حماس والجهاد الإسلامي الذين خربوها وجلسوا على تلها. أشعلوها ثم تواروْا عن الأنظار، وتركوا رفاقهم ومواطنيهم يتلقون صواريخ نتياهو الهمجية، وحيدين، ودون معين.