في عالمنا المعاصر، يبدو أن السياسة الدولية تتحرك وفق معادلة غريبة تتناقض بشكل صارخ مع المبادئ المعلنة للدول الكبرى، خصوصاً تلك التي تدافع عن السلام العالمي والاستقرار. الدول التي تزعم أنها تسعى إلى تعزيز الأمن والسلام، والتي تروج في كثير من الأحيان لثقافة السلام وحقوق الإنسان في المنتديات الدولية، هي نفسها التي تنتج وتصدر كميات ضخمة من الأسلحة إلى دول أخرى. هذا التناقض يطرح تساؤلات حول طبيعة النظام الدولي وتفاعلاته، ويستدعي التحقيق في دور صناعة الأسلحة في بناء “الاستقرار العالمي”.
وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام (SIPRI)، تشير الإحصائيات إلى أن صناعة الأسلحة تشهد نمواً متزايداً في السنوات الأخيرة، حيث تهيمن خمس دول رئيسية على سوق الأسلحة العالمي: الولايات المتحدة الأمريكية: الولايات المتحدة تعد اللاعب الأول في سوق الأسلحة العالمي، حيث تصدّر حوالي 39% من إجمالي الأسلحة. في عام 2022، بلغت قيمة صادرات الأسلحة الأمريكية نحو 47.2 مليار دولار. تصدر الأسلحة إلى دول عدة في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، رغم تسجيل انتقادات بشأن استخدامها في النزاعات الإقليمية، مثل حرب اليمن.
و روسيا: تعتبر روسيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم، حيث تصدّر حوالي 20% من إجمالي الصادرات العالمية. وفي 2022، صدرت الأسلحة بقيمة 13.7 مليار دولار. يركز السوق الروسي على تلبية احتياجات دول مثل الهند والصين والشرق الأوسط، وخصوصاً الأنظمة العسكرية الثقيلة مثل الطائرات والدبابات وأنظمة الدفاع الجوي. وفرنسا تشارك في تجارة الأسلحة كأحد اللاعبين الكبار، حيث تصدّر 10% من إجمالي الأسلحة عالمياً. قيمة صادرات الأسلحة الفرنسية وصلت إلى 11.1 مليار دولار في 2022. تصدر فرنسا الأسلحة إلى دول مثل الإمارات العربية المتحدة والجزائر، وتشارك في تسويق الأنظمة الجوية والبرية في مناطق النزاع.وتحتل ألمانيا المرتبة الرابعة في سوق الأسلحة العالمية، حيث تصدّر أسلحة بقيمة 9.1 مليار دولار سنوياً. ومع أنها تروج للسلام والتنمية المستدامة، فإن صادراتها تشمل أسلحة متطورة تُستخدم في الحروب والنزاعات في مختلف أنحاء العالم. اما الصين: رغم أنها تعتبر واحدة من أكبر الدول المصنعة للأسلحة، فإن صادرات الأسلحة الصينية تمثل حوالي 5% من السوق العالمي. تركّز الصين بشكل خاص على تزويد دول أفريقية وآسيوية بأسلحة متقدمة.
الدول التي تدعو إلى السلام والاستقرار العالمي، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، ليست فقط من بين أكبر المصدرين للأسلحة في العالم، بل تقوم بتعزيز صناعاتها العسكرية بشكل متواصل. هذا يثير تساؤلات حول جدوى النفاق السياسي في السياسة الدولية، حيث تسعى هذه الدول إلى تقديم نفسها كحماة للسلام، في حين أن مبيعات الأسلحة التي تنفذها تساهم بشكل مباشر في تأجيج الصراعات والنزاعات في مناطق أخرى.
أمثلة على هذا التناقض كثيرة منها :حرب اليمن: من أكبر الأمثلة على التناقض بين دعم السلام والصادرات العسكرية هي الحرب في اليمن. الولايات المتحدة، فرنسا، المملكة المتحدة، ودول أخرى تعتبر نفسها من المدافعين عن السلام، ولكنها في ذات الوقت من أكبر موردي الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين تقودان تحالفًا عسكريًا في اليمن. هذا التحالف متهم بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان واستخدام الأسلحة ضد المدنيين في النزاع. ففي عام 2022، كانت الولايات المتحدة المورد الرئيسي للأسلحة للسعودية بقيمة تتجاوز 20 مليار دولار. وايضا القضية الفلسطينية: من التناقضات الكبرى الأخرى في السياسة الدولية دعم الدول الكبرى للسلام في الشرق الأوسط، بينما في الوقت نفسه توفر الأسلحة للأطراف المتصارعة. على سبيل المثال، الولايات المتحدة تصدر الأسلحة إلى إسرائيل بينما تعلن في ذات الوقت التزامها بحل الدولتين في إطار السلام.والوجود العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان: الولايات المتحدة تتبنى سياسة نشر الديمقراطية والاستقرار من خلال تدخلاتها العسكرية في الشرق الأوسط وآسيا. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه التدخلات تسببت في تفاقم الصراعات والنزاعات. وبعد كل تدخل، تحولت العديد من هذه المناطق إلى أسواق لبيع الأسلحة الأمريكية والأوروبية، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني.
تعزيز الصناعات العسكرية: تسهم صناعة الأسلحة في دعم الاقتصاد في الدول الكبرى من خلال إيرادات ضخمة من مبيعات الأسلحة. ولكن هذه الصناعات تُجبر الدول على تطوير أسلحة أكثر تدميراً لتلبية احتياجات الأسواق العالمية، مما يعزز “دورة العنف” على المستوى العالمي. تفاوت النمو الاقتصادي: في العديد من الحالات، تسهم مبيعات الأسلحة في إدامة الأنظمة العسكرية في دول ذات نزاعات مستمرة، مما يؤدي إلى تفاقم الفقر وعدم الاستقرار الاجتماعي.
زيادة التسلح: الدول التي تتلقى أسلحة حديثة تستخدمها في صراعات إقليمية تزداد خطرًا على الأمن الإقليمي والعالمي. زيادة التسلح تعني زيادة في احتمالات التصعيد العسكري وزيادة في حدة الحروب الأهلية والنزاعات العابرة للحدود. تسليح الأطراف غير الحكومية: في العديد من الصراعات، يتم تزويد الجماعات المسلحة والمتطرفين بالأسلحة من قبل دول أو شبكات دولية. وهذا يزيد من تعقيد جهود مكافحة الإرهاب ويجعل من المستحيل تحقيق السلام الدائم.
لتحقيق السلام الحقيقي والاستقرار العالمي، يتطلب الأمر أولاً تحجيم مبيعات الأسلحة وتطبيق قوانين دولية صارمة للحد من بيع الأسلحة إلى الدول والمجموعات التي تُستخدم فيها لتمويل الصراعات. ويجب أن تعمل الدول الكبرى على تعزيز التعاون الدولي بعيدًا عن المصالح الاقتصادية الضيقة، من خلال:إلغاء أو تقليل صادرات الأسلحة إلى مناطق النزاع.و تعزيز الدبلوماسية وحل النزاعات بطرق سلمية. مع مراقبة أكثر شفافية لتدفق الأسلحة والضغط على الدول المسؤولة عن تصديرها إلى أطراف متنازعة.إن التناقض بين الدفاع عن السلام وصناعة الأسلحة يُعد من أكبر التحديات في النظام الدولي المعاصر. الدول الكبرى، رغم تأكيداتها المستمرة حول تعزيز السلام، تظل واحدة من أكبر المروجين لتجارة الأسلحة، مما يساهم في تأجيج الحروب والنزاعات في مناطق عدة من العالم. لتحقيق السلام الدائم، يجب على هذه الدول أن توازن بين المصالح الاقتصادية والأمنية وبين التزامها بالسلام العالمي.