“سنعيد بغداد الى ما قبل عصر الصناعة”.. كان هذا وعيد جيمس بيكر الذي حققه صدام بأم معاركه ، ومع ذلك فقد وجد حشد من العرب في حماقات الدكتاتور تعويضاً لفحولتهم الضائعة في أقبية المخابرات بين ذل التحقيقات و صفعات رجال الامن. ولجون ماكين أم معاركه هو الآخر، حين حلق بثلاث وعشرين طلعة جوية أفرغ حمولتها من قنابل النابالم لتسوية القرى الفيتنامية مع الارض في حفل شواء للحم البشري، ليعود الى بلاده بطلا حامياً للوطن من ارهاب الفلاحين العراة والاطفال الجياع، فتكافئه الوول ستريت واعلامها برصيد لا ينضب في بنك السياسة الأمريكية، حتى أصبح نجماً سياسياً لامعا وقد شيعت جنازته كالقديسين. أما بوش الاب فلا ندري اياً من حروبه تصنف أماً لمعاركه، أهي أطنان القنابل التي أسقطها على المدنيين والبنى التحتية في العراق، أم التسلّيح الثقيل لتجار المخدرات وتشكيل فرق الموت في أميركا اللاتينية، ام تسليح وتدريب الكونتراس لتمارس الارهاب في نيكاراغوا، أم قتل 3000 مدني وتدمير عشرات الآلاف من بيوت الفقراء في بنما، أم إسقاط الطائرة الايرانية التي قتل فيها 150 مدنياً منهم 66 طفلا؟؟، بعد كل تلك الانجازات الا يستحق الرجل ما وصفه به الاعلام الامريكي بانه مثال الانسانية والنبل بل ”شبيه المسيح”، وأن تشيع جنازته هو الآخر كقديس مبجل.
تلك النماذج ليست سوى مشهد جزئي من واقع متكامل اتقنت تصنيعه تكنولوجيا الاعلام ومصادر المعرفة المعولمة، وهو ما اطلق عليه الفيلسوف الفرنسي بودريار ”فوق- الواقع” ،واقع مصنع لا يمتثل لثنائية الخير والشر، فالجريمة فيه مسار مضمون للبطولة التأريخية اذا ما التحفت بالمسوغات الاخلاقية وسمو الأهداف، والحروب هي الطريق الوحيد الى السلام طالما علا صوت الجنود بأناشيد الحرية والعدالة، واقع سحري تتلاشى فيه قسوة الواقع الحقيقي فى صور الدهشة والامتاع.
لم يكن بودريار ليعني بتعبير فوق -الواقع مجرد تشويه الواقع الحقيقي اعلامياً، فهذا الامر ليس جديدا بل درجت على ممارسته الطبقات الحاكمة على مر العصور، ما يقصده ان التطور الهائل في مجال الاعلام وصناعة المعرفة وعولمتها قد مكن الطبقات الحاكمة من إماتة الواقع الحقيقي ودفنه، و الاهم والأخطر من ذلك محو مراسيم دفنه تماماً من الذاكرة الجمعية، وبهذا لم يبق لنا سوى الواقع المصنع لننغمس فيه ونتفاعل معه و كأنه الواقع الحقيقي، فيصبح أساساً نستوحي منه مواقفنا ومفاهيمنا وقيمنا الاخلاقية ويتحكم بمشاعرنا وردود أفعالنا، تستثار مشاعرنا الانسانية أمام مشهد وحشية السكين ونتابع ببرود انفجار التوماهوك.
كتب بودريار أن حرب الخليج لم تقع، وهو يشير بذلك الى ان ما شهده العالم من وقائع الحرب لا تنتمي الى الواقع الحقيقي بل هي نموذج للواقع المصنع (فوق-الواقع).. فالجندي الامريكي يعود الى زوجته لتسرد له وقائع الحرب كما شاهدتها على ال سي ان ان بتفصيلات لم يرها هو القادم من قلب المعركة، فالحرب كما شهدها هو: إحداثيات تحدد له الهدف على شاشة الكومبيوتر و ازراراً يضغطه لينطلق الصاروخ الى هدف بعيد لا يراه ولا يرى ما سيحدثه من دمار و موت. هكذا تمكنت التكنولوجيا العسكرية المتطورة أن تحجب الضحية عن رؤية القاتل، وبهذا توفر مسكّناً فعالاً لوجع الضمير، فيصبح القتل والتدمير عملية تقنية خالصة بل عملاً وظيفياً كالهندسة والطب، المهندس يجيد تصميم البنابية والمقاتل يجيد التصويب لتفجيرها، وهكذا يتداعى الجدار الفاصل بين قيم الخير والشر، الهدم والبناء، الجريمة والبطولة، القيم المتضادة قد تنال نفس القدر من المشروعية في الواقع المصنع.
في كتابه ( الاصطناع والمصنع) أشار بودريار إلى ان بقية أشلاء الواقع الحقيقي تمتزج بالواقع المصنع كما تمتزج المركبات الكيمياوية في محلول، فيستحيل الفصل أو التمييز بينها، ولفهم ما يرمي اليه أقترح
ان نتأمل مشهدين في التلفزيون :
المشهد الأول : ارهابي داعشي يلوح بسكينه وهو يتهيأ لجز رقبة مواطن برىء. أنت الان امام القاتل والضحية وأداة الجريمة وجهاً لوجه، تكاد تتحسس أنفاس الضحية وترى الخوف في عينيه، بل تشعر بوحشية وكراهية القاتل تنبعثان من شاشة التلفزيون، إنه مشهد ينتمي الى الواقع الحقيقي بكل قسوته ووحشيته، مشهد يثير فيك سلسلة من المشاعر الانسانية كالخوف والشفقة والغضب.
المشهد الثاني: صاروخ توماهوك يحلق في الفضاء، يعقبه دوي انفجار مع انبعاث كتلة هائلة من الدخان، لا ترى سوى أداة الجريمة، لا ترى اللحوم البشرية الممزقة أو الدماء ولا تسمع أنين الأجساد العالقة تحت الانقاض، انه مشهد بارد ينتمي الى الواقع المصنع، ولا يستثير فيك اي مشاعر، بل يمكنك مشاهدته وانت تحتسي قهوتك في الصباح، وربما لا يبعث فينا سوى الدهشة والاعجاب بتطور التكونولوجيا العسكرية للصاروخ!!
من الواضح أن تكونولوجيا الاعلام المتطور تمتلك مفاتيح التحكم بمشاعرنا، وبالتالي بتشكيل وعينا الجمعي، ففي المشهد الاول هناك جريمة واضحة، أما في المشهد الثاني فان الصاروخ يؤدي مهمة وهو محمل ب(رسالة سامية )!!، وهكذا يجري التأسيس لمنظومة اخلاقية جديدة مختلطة المعايير وتنتفي فيها ثنائية الخير والشر بل يبدو مألوفاً ومقنعاً لاعداد غفيرة تقليد أوسمة البطولة لأعمال إبادة أو ارتكاب مجزرة.