الى روح أخي الشاعر مهدي محمد علي
من أين تبتدئ الحكاية يا مهدي ، من بصرتك الحلم التي حملتها ، راحلا في البدو عبر المنافي ، كما لو كنت مسيحاً يحمل صليبه ..
حتى وجدتُك تعلن آخر هبوطٍ من جنتك في (حلب) ..
(بعد ما صنعتْ هذه الروح بصرتَها
في وعاءٍ من الترْب في السطح
أو في وعاءٍ من الماء في غرفة للكتابة )
من أين نبتدئ ياأخي ..من أهلك الذين (طول المنفى تتوهم أهلا يأتون/ في أية لحظه)
و(هطل الأهل
بعد سنين من القحط
صاروا يجوسون
ـ كالماء ـ
قلبي الذي قد تفطّر)
بعد أن أتيت بمعجزة جذبتنا إليك ، بعد أن مضيتُ بروحك الى حيث كنت في (جنة البستان)، حيث تجول بها لا تعيش بها مرة ثانيه ..تتذكر جيدا وأنت في ورطة منفاك وبعدك ..
(هل تراني أراها
لا أقول ألامس جدرانها والشناشيل
ثانية
هل تُرى تتذكرني
إذ ولدتُ
وحين صبوت
وحين شببت
وحين انطفا قمري وأفِلت فغادرتها
((كنتُ غادرتها إذ جدار الطفولة غادرني إذ جرى هدمه عنوة )) )
وأنت لا تعرف على وجه الدقة ، من يجول في من؟
(هل أجول بك الآن يابصرتي
أم تجولين بي ).
سأسميك (المواطن الأبدي) دون تردد ، مواطن تشبه (محمد خضير) من جهة ولا تشبهه من أخرى ، كرحيلك ببصرتك في المنافي ، ورحيله فيها وهو فيها ..
وجاءك أهلك تباعا دون أن يتخلف أحد منهم ، سوى أمك التي جاورت قبر الحسين (منتهى حلمها)
ثم خفّت الى الموت دون أن تراها ..
خمسة أيام بلياليها لم أكتب أو أقرأ حرفا ، بعد ان أبرقتُ اليك من دمشق/ السيدة زينب ، أخبرك بلهفتنا للقائك بعد ربع قرن ، أنت تحوم ونحن نحوم حتى التقيتك أنا وأخي صادق بعد لأيٍ بحلب، هكذا قلت لي ..
لم يدم ذلك طويلا ، ولم يبقَ لديك منا سوى أثرٍ لعناقنا ، وعاودك مثلما عاودنا ـ العطشُ لنا ، بعد أن (شربتنا ماء فراتا) ، بعد أن قفلنا راجعين ..
آخر مهاتفة لي معك ، لن أنسى عتابك ، لانقطاعي الذي أعترف رغم مشاغلي ـ أنه جرمي الذي لا أغفره لنفسي ..كنتَ حينها ، تشكو من علل شتى في جسدك ، دون أن تكف عن متابعة عشيرك بدأب ، بعد أن سحقها (السكري) ، فبقيت على سرير المرض ،و(أطيافك) حتى صارت مثل نخلة ، أعرف جيدا يا مهدي سر علتك ، شاخصة قدّام روحي .. أيها الموزّع بين منفاه ووطنه ، دون أن يتسلّح إلا بالشعر ..
فعلْتها يا مهدي ورحلت بهدوء ، كما لو كنت ذاهبا لتغسل يديك ..
هكذا أنت دائماً ، كما قال عنك رياض الصالح الحسين :
أسفاً سنذهب الى الغابة
دون عصفورٍ
أو خروف أبيض .
هكذا أنت بوداعتك ، ببسمتك المضيئة رغم حلكة ظروفك ، التي ألقتْ بظلالها على متطلبات حياةٍ جعلتها أنت بفيوض روحك ـ ممتلئة بالحياة .. تجتذبني بقناعتك ويقينك بقدسية الكتابة ، شعرا ، نثرا ، مثلما تسحرني بيديك اللتين تجيدان الامتثال لما تريد أن تفيض به من قول ، وهيام روحك ، فتأخذني لعوالم أرجوها ، سيما حين نصطادك لنسمع شعرا كتبتْهُ روحك ..
نصغي إليك .. تماماً نطرب ، نسافر، نبكي ، ما هذا يا مهدي ؟ كل جارحة فيك تتقن دورها وأنت في طقوس ترتيلك ، أتذكر جيدا حين قرأت قصيدة (بئر أختي ) عن أختك فاطمة ، أشعرْتنا حينها أن صوتك يصلها ، هكذا أنبأتْ الدمعة التى تحيّرت في عينيك دون أن تهبط ،
((أينها فاطمة
أين أختي الكبيرة
((أمي الصغيرة))
سفر حكاياتنا
وخرافاتنا.))
وأنت تصعّد انفعالاتك ، دون أن تدري ، حتى خشينا منها عليك ..
ثم يتهدّج صوتك المختنق بعبرة حنين موجع ..
(( أفتحي البابَ
يا أمةَ الله
أم بابنا ليس يفتحُ
أم سامنا قدرٌ
في السماء
وفي الأرض
لا نلتقي ! ))
آه يامهدي ، هل حقا سأقرؤك في (رحيل 78) و(سر التفاحة) و(خطى العين) و(سماع منفرد) و(شمعة في قاع النهر) ،و(ضوء الجذور) و (البصرة جنة البستان ) ، وأقرأ كل ما أمتاحه من بئرك الممتلئ بالنثر والشعر ، والذي لم تتعرف على حبره المطابع بعد..
حقا أقرؤك دون أن أمنّي النفس بـ (طلّة )عليك وأنت ساهر الليل ،عاكف على شغلك الشاغل العمر كله ..مع حرفك وركام أوراقك المشغولة بالنصوص ، والمختومة بتوقيعك الذي اتخذته أخيرا ـ سمة لك ـ بصرة حلب ـ بعد أن بلغ بك النفي عن بصرتك عتيّا..ألم أقل أنه الموزّع بين المنفى وبصرته..
( طال بالروح هذا العراق
طال حتى غدا لا يطاق)
أيها الأخ الذي تشبعتُ فيه أخاً وصديقاً ، دون أن أشبع منه ، أخاً في صديق ، وصديقا في أخ .
مثل نهر متدفق لا ينقطع ، تحاصرني أنت .. رفقا بي يا مهدي ، لا أسألك أن تفك حصارك عني ، فأنا مأخوذ به حد الهيام ، لكن أمنحني وقتا كي استجمع قواي لاستوعب الطعنة المباغتة لرحيلك الأخير حتى آخرة المنافي ، في مقبرة بحلب .
[email protected]