موقف السعودية بعد الهجوم على آرامكو في 14 أيلول لايحسد عليه ، انها على المحك الآن ، وعليها ان تفكر مليّا وبصبر كصبر الجمل ، قبل ان تقدم على ردّ بحجم الفعل الذي وقع . والى ان تظهر نتائج التحقيق التي تجريها السعودية بالتعاون مع فرق بحث فنيّة امريكية وأممية ، فان اصابع الاتهام تشير الى ايران ، وكل المسوّغات لهذا الاتهام مقبوله ، وقد سبق وصرحّت ايران على لسان سياسيها الثوريين والحكوميين وقادتها العسكرين في الجيش والحرس الثوري ، انها ،اي ايران ، اذا ما حرمت من تصدير نفطها فلن تقف مكتوفة الايدي وستمنع الاخرين من تصدير نفوطهم ، وما جرى في ذلك اليوم يتطابق تماما مع تلك التصريحات . فضلا عن ذلك فقد حذرّت ايران ، بشكل واضح وصريح ، الاخرين من ان المنطقة برمتها ستحترق في أتون حرب شاملة اذا ما حصل عليها أي اعتداء .
ازاء مثل هذا الوضع المعقّد كيف يمكن للسعودية ان تتصرف وكيف سترد وأين سترد وهي الواقعة بين ابتزازين ! ابتزاز مالي ضخم من جانب امريكا ، وابتزاز عسكري عدواني من جانب ايران . فلا هي قادرة على وقف اعتداءات ايران بمفردها ، ولا هي راغبة في ضخ الاموال في امريكا من دون طائل ومن دون ان ترى من الاخيرة حسما عسكريا يردع ايران ، ويحول دون ان يتكرر ما حدث في 14 أيلول . وبين هذين الابتزازين وفي مثل الاوضاع المتفجرة التي تعيشها المنطقة ، فان خيارات السعودية محدودة جدا اذا ما أخذنا في الاعتبار بعض العوامل الرئيسية .
عدم مجازفة السعودية بما حققته من رفاهية لمواطنيها ونهضة تنموية واقتصادية لبلادها وانفتاح اجتماعي ساهم في تحسين صورتها في الديمقراطيات الغربية ، لاسيما وهي تخطط لبرنامج تنموي طموح من خلال برنامج رؤية السعودية لعام 2030 . ان تلك الانجازات ستتعرض لخطر جسيم في اية مواجهة عسكرية مع ايران .
ليس لأيران ما تخسره في مثل هذه المواجهة حتى وان تعرضت منشئاتها النفطية والعسكرية لدمار كبير ، لأنها تعتبر ان معركتها ستكون معركة وجودية وليست معركة سياسية او عسكرية أو أمنية فحسب.
لا توجد منظومة أمن قومي عربي تستطيع السعودية ان تتكأ عليها ، ولا قوة عسكرية عربية ، باستثناء مصر ، تساندها اذا ما فكّرت برد عسكري انتقاما لما وقع عليها من عدوان ، ومصر ليست في وارد ارسال قواتها العسكرية وخوض الحروب خارج حدودها لأسباب داخلية وأقليمية واقتصادية.
عدم قدرة السعودية بما تملكه من بعد اسلامي على خلق دعم اسلامي مؤثّرّ لصالحها في صراعها مع ايران لأسباب متعددة يأتي في مقدمتها ان كلا البلدين السعودية وايران بلد مسلم ، يضاف الى ذلك توتر العلاقات بينها وبين تركيا التي لها وزنها في منظمة المؤتمر الاسلامي ، كما تحافظ الباكستان على علاقة متوازنة بين ايران والسعودية على الرغم من علاقاتها المتميزة مع السعودية ، وينأى اسلام جنوب شرق اسيا بنفسه عن الانخراط في مثل هذا الصراع ، اما الدول الاسلامية الفقيرة في افريقيا فتأثيرها محدود جدا ، أو يكاد ان يكون معدوما .
المزاج الدولي في هذه المرحلة لايحتمل زيادة حدة التوتر في منطقة الخليج ، ويدعو الى استقرار المنطقة وحماية أمنها ، ومهما اختلفت الرؤى في طيف القوى الدولية والاقليمية التي ستتعهد في حماية أمن المنطقة ، فسيتم التوصل الى اتفاق في نهاية المطاف .
ان الولايات المتحدة لأسباب متعددة داخلية وأقليمية ودولية لا ترغب في تصعيد التوتر بينها وبين ايران ، بل انها تخطط لأستيعابها، وهي لاتختلف في هذا الهدف عن المسعى الاوربي في هذا المجال الاّ في آلية تحقيقه .
ان محاولات ايران في عرقلة تدفق النفط عبر الخليج دون الوصول الى التأثير الكبير على امداداته محسوبة ، لغاية الآن ، بشكل دقيق وعلى النحو الذي يحول دون تشكيل موقف دولي وبشكل خاص أوربي معاد لايران .
ان ايران تختفي وراء التشكيلات التابعة لها في المنطقة بدلا من المواجهات المباشرة ، لتلافي الانتقادات الدولية وما يمكن ان يترتب عليها ، كما حدث في يوم 14 ايلول ، حين أعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن الهجوم على مواقع ارامكو في السعودية .
الخيار الذي يبدو واقعيا في ضوء الاعتبارات اعلاه هو تجنب المواجهة العسكرية مع ايران في هذا الظرف ، فالوضع الدولي غير ناضج لمثل هكذا خيار . واذا ما أثبتت التحقيقات الاممية ان ايران هي التي كانت وراء الهجوم على آرامكو فيمكن للسعودية ان ترفع الامر الى مجلس الامن من اجل المطالبة بالتعويضات وخلق رأي دولي مناهض لأيران الثورة . وهذا مسار سيلاقي دعما دوليا ويزيد من عزلة ايران الثورة وينسجم مع مساعي الولايات المتحدة والاوربيين في اطار سياساتهم لتغيير المسار في ايران. الى جانب ذلك ينبغي على السعودية ان تجرّد ايران من الحجابات التي تختفي وراءها والتي تسهّل عليها القيام بمثل تلك الاعتداءات من خلال التوصل الى تسوية سلمية في اليمن باسرع وقت ممكن .
ان حاضنة ايران الثورة هي الصراعات التي تأججت في المنطقة خلال الاعوام الثمانية الماضية ، وقد استخدمتها للتمدد بشكل غير مسبوق في المشرق العربي ، واذا ما خمدت هذه الصراعات فان ذلك سيساهم بشكل كبير في تغيير المسار في ايران لصالح ايران الدولة . فضلا عن ذلك فان استمرار العقوبات الاقتصادية المشددة أو ما يسمى بسياسة الضغوط القصوى على ايران من قبل الولايات المتحدة، سيؤدي في النهاية الى افتراق نهجين ايرانيين ، ما زالا لغاية الان، متماثلين في الاداء على الساحة الدولية والاقليمية في التعبير عن مواقف ايران حسب مقتضيات الظروف التي مرّت بها طوال الاربعين عاما الماضية . فامّا أن تستمر ايران الثورة في مواقفها العدائية وترتكب المزيد من الحماقات بما يفقدها ما تتمتع به من تفهّم دولي وبما يزيد من عزلتها الدولية ، ويجعل من معالجة تصرفاتها العدائية أمر ضروري لحفظ السلم والامن الدولي والاقليمي ، أو أن تقوم ايران بتغيير المسار باتجاه الدولة و ستحظى عند ذلك بدعم اقليمي ودولي كبيرين .
لايوجد في الافق ، وحتى اللقاء المرتقب بين الرئيس الامريكي ترامب والرئيس الايراني روحاني في نيويورك على هامش الجمعية العامة خلال الاسبوع الاخير من هذا الشهر ، ما يشير الى تطورات مهمّة في المنطقة ، ولكن اذا ما حدث هذا اللقاء فستتكشف ملامح ما يخبئه المستقبل المنظور .