22 ديسمبر، 2024 7:19 م

السعودية: استعداد وقائي لمواجهة المتغيرات

السعودية: استعداد وقائي لمواجهة المتغيرات

قبل عدة أيام تم عقد ثلاث قمم؛ سعودية صينية، وخليجية صينية، وعربية صينية، أفضت إلى اتفاقات واستثمارات وبنود سياسية واقتصادية، واعتبر أغلب الكتاب والمحللين السياسيين أن هذه القمم؛ تشكل استدارة سعودية وخليجية وعربية باتجاه الشرق، كبديل عن الولايات المتحدة الأمريكية، واعتبرها البعض محاولة جادة للسعودية بالذات، بالعمل على تعدد الشراكات والخيارات في الفضاءات الإقليمية والدولية.
هذه التحليلات السياسية لا تمثل إلا جزءاً من الحقيقة. في المقابل صحة التحليل الذي يعتبر التحرك السعودي؛ تحركا ذكيا لناحية استثمار منتج للتغيرات والتحولات الدولية والإقليمية في آن، لكن ليس إلى الحد الذي يشكل استدارة أو ابتعادا عن الشريك الأمريكي، الذي لم تأخذ أعماله ومشاريعه، في الاعتبار مصالح الشريك السعودي وبقية دول الخليج العربي والدول العربية الأخرى، بل كانت في أغلبها، بصرف النظر عما تعلنه أمريكا؛ بالضد من مصالح السعودية وبقية الدول العربية. مع كل هذا الذي جرى ويجري إلى الآن؛ تظل السعودية وبقية الدول العربية، لجهة معطيات الواقع الموضوعي؛ تدور في فضاءات هذا الشريك، ولو إلى زمن ما، تحدده التحولات المرتقبة الإقليمية والدولية. في الوقت عينه تخرج جزئيا من هذه الفضاءات من دون أن تحلق مبتعدة عنها؛ لضمان منصات أو قواعد للحركة، لتكون البديل المضمون عندما تتغير اهتمامات الشريك الأمريكي، بسبب تغييرات في أنظمة الجوار الإسلامي لمصلحة الغول الأمريكي، أو التغييرات في الجهة الثانية من الكرة الأرضية، أو تنشيط وإعادة الحيوية في نشر الديمقراطية في المعمورة، وهذه ترتبط بالتغييرات المرتقبة في أنظمة الجوار الإسلامي، والتطور المتسارع لثورة الاتصالات والمعلومات، لكن من الجانب الثاني هل هناك في الصف الخليجي والعربي وحدة موقف في هذا الاتجاه؟ أم أن العملية برمتها تفتقر من الناحية الواقعية لوحدة الموقف الخليجي والعربي، ثم هل أن هناك إمكانية لفك الارتباط المصلحي مع أمريكا خليجيا وسعوديا بالذات، الذي تفرضه على أمريكا؛ وقائع الصراع في المنطقة والعالم، ولو تدريجيا، أي على مراحل ناعمة وغير تصادمية في البداية على أقل تقدير، حسبما يذهب التحليل السياسي لبعض الكتاب؛ لمداخل ومخارج هذه القمم؟ أم أنها تشبه القمم الثلاث التي عقدها ترامب قبل سنوات، ولم تنتج أي فعل على أرض الواقع. الأكيد أن قمم ترامب تختلف تماما عن قمم تشي جين بينغ؛ الأخيرة جاءت كحاجة سعودية عملية لتنوع الخيارات والشراكات، وبالذات في التسليح، وفي توطين صناعة السلاح كالصواريخ البالستية ونقل تكنولوجيا الذرة للأغراض السلمية، في الاستعداد لمواجهة التهديد المستقبلي المقبل من دول الجوار. الامير محمد بن سلمان ولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، لاعب ماهر في الحقل السياسي، سواء ما كان في الداخل السعودي، أو في المجال الإقليمي، أو في الفضاءات الدولية، أولا. وثانيا رجل دولة ذكي وماهر في اللعب على مخارج التغييرات الدولية. وثالثا شجاع وجريء. ورابعا يمتلك مشروعا وبرنامجا وخريطة طريق لتنفيذ المشروع والبرنامج التحديثي الذي أعلنه قبل سنوات؛ على الصعد المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وخامسا القدرة على اللعب على المتناقضات بطريقة مستترة أحيانا، وبطريقة واضحة ومكشوفة في أحيان أخرى، حسب مقتضيات الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية. وسادسا القدرة على الاستثمار الأمثل والمنتج لتقاطع المصالح للدول العظمى. سابعا عمل على تصفية الأجواء التي فتحت الطريق له؛ في السيطرة على صناعة القرار السياسي، وتنفيذه بلا أدنى معرقلات.
لقد تم إرساء قواعد الشراكة التخادمية، بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية منذ أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، على قاعدة ثابتة لم يكتنفها الشك وعدم الثقة، كما حصل في السنوات الأخيرة، وتحديدا في العقدين الأخيرين من القرن الحالي، كما لم تتخللها أي هزات أو تغييرات؛ على القاعدة التي تم الاتفاق عليها بين المسؤولين؛ النفط مقابل الحماية في ظل عالم الحرب الباردة التي تنافس فيها قطبان على الزعامة والنفوذ؛ هما القطب الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والقطب الرأسمالي بقيادة أمريكا. أما في الوقت الحاضر وبعد تراجع الدور الأمريكي في السيطرة على مقود قاطرة الكرة الأرضية، وصعود كل من الصين وروسيا كقطبين في مواجهة التغول الأمريكي، الذي سيقود أو ينتهي حكما إلى تعدد مراكز التوازن الدولي، ولو بعد زمن ما من الآن بطريقة جلية وواضحة، وليس بطريقة ضبابية ورمادية، لم يتم بها الفرز لمراكز التوازن الدولي كما هو جار الآن. هذه التغييرات دفعت الكثير من دول العالم، وفي المقدمة منها؛ دول العالم الثالث إلى استثمار تنازع القوى العظمى على مناطق الهيمنة والنفوذ؛ بسبب الاستغلال الأمريكي لها تحت لافتة الشراكة وفضاءاتها، من دون أن تأخذ أمريكا مصالح تلك الدول، عندما تنفذ أمريكا خطة ما لها في منطقة تلك الدول وفي محيطها، ولا تعير أي اهتمام لما يلحق من ضرر كبير بتلك الدول، أو حين تدعم دولة ولو بصورة خفية، أو جهة ما في محيط تلك الدول. التحرك السعودي والخليجي والعربي في القمم الثلاث التي عقدت مؤخرا في الرياض العاصمة السعودية، بين زعماء هذه الدول والرئيس الصيني؛ من المفترض كقراءة أولية؛ أن يقع ضمن هذه الدائرة من التوجه السياسي وما يتصل به من آفاق.. لكن من وجهة نظري؛ ليس في نية القيادة السعودية ولا بقية قادة دول الخليج العربي، وبقية زعامات الدول العربية الاخرى؛ الاستدارة الكاملة للشريك الأمريكي، بل مناورة ذكية وبراغماتية في اللعب على متناقضات المصالح للقوى العظمى إلى الحدود التي يسمح بها الواقع الموضوعي ومعطياته داخل تلك الدول وفي الفضاء الإقليمي المجاور، من دون استفزاز الشريك الأمريكي الذي باعتقادي يتفهم هذه اللعبة التي لها علاقة رئيسية بالداخل الامريكي والقوى الفاعلة فيه. في المقابل الولايات المتحدة تغض الطرف عن تحركات شركائها في الخليج العربي، وفي بقية الدول العربية، طالما لا تأكل هذه التحركات من جرف نفوذها في المنطقة، وبقائها في الحدود المسيطرة عليها، من دون العمل على توسعته، بما يؤدي إلى ابتلاع ركائز ومراكز قوة الولايات المتحدة في تلك الدول. على سبيل المثال المشابه؛ هناك علاقات اقتصادية وتجارية وفي حقل الصناعة العسكرية وتكنولوجيا الاتصالات من تلك التي ترتبط بصناعة السلاح الذكي، بين الصين والكيان الاسرائيلي، لكن هذه العلاقة لم تؤثر في علاقة التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل وأمريكا التي تدعم بقوة لا مثيل لها في العالم؛ أمن الكيان الإسرائيلي، أي أن أمريكا تتفهم موجبات هذه السياسة الإسرائيلية، وتغض الطرف عنها. إنما في الجهة الثانية من هذه الصفحة، وكي تنجح هذه المناورة على القيادة السعودية حصرا؛ أن تواجه ردود الإدارة الأمريكية الحالية بإرادة صلبة؛ تجبرها على أن تتفهم السياسة السعودية هذه، واستثمار لوبيات الضغط في بيوتات صناعة القرار الأمريكي الداعمة للسعودية؛ لأن السعودية تمتلك قدرات هائلة في حقل الطاقة النفط والغاز، أكثر من بقية دول الخليج العربي، بما لا يقاس، ولها القدرة على التحكم بأسواق الطاقة؛ إن تفعيل السعودية لعوامل الضغط التي تمتلكها في الداخل الأمريكي، خصوصا أن من يحكم أمريكا، سواء في الإدارة أو مراكز صناعة القرار الأمريكي؛ الشركات العملاقة ومنها شركات الطاقة.
تختلف رؤية الأمير محمد بن سلمان في طبيعة العلاقة مع أمريكا والصين عن رؤية بقية دول الخليج العربي وبقية الدول العربية، وإن ظهرت بخلاف هذا، أي اتفاق تام حسب الخطاب السياسي لتلك الدول، لكن الواقع إذا نظرنا عميقا لحركته؛ تشير تلك الحركة إلى الاختلاف بين الرؤيتين؛ خصوصا أن الوجود العسكري الأمريكي لبعض دول الخليج العربي؛ الأسطول الخامس الأمريكي في البحرين على سبيل المثال، إضافة إلى عمليات التطبيع المجاني لبعض دول الخليج العربي وللبعض الآخر من الدول العربية، مع الأخذ بعين الاعتبار التحالف الاستراتيجي بين امريكا والكيان الإسرائيلي، وعلاقته بالتطبيع ومسارته المستقبلية واستدامته؛ هذا يعني أن توجه هذه الدول إلى الشرق على حساب العلاقة مع الشريك الأمريكي؛ أمر في غاية الصعوبة، إن لم أقل إنه أمر مستحيل، حتى مع انعدام الثقة بهذا الشريك وعدم الاطمئنان له، مع ترك هامش للمناورة في الحقلين الإقليمي والدولي وبتفهم وقبول أمريكي لهذه الدول. أما المملكة العربية السعودية فإن لها أمرا اخر مختلفا عن بقية الدول العربية؛ في مناورتها وبراغماتيتها الأخيرة مع الجانب الصيني وقبله الروسي، مع التفهم الأمريكي لها والمجبرة عليه حاليا؛ للمحافظة على هذه الشراكة، وعدم فتح جميع الأبواب للمنافس الصيني أو الروسي، لكنها تظل تشكل هاجسا مقلقا للشريك الأمريكي. السعودية لا تريد كما في السابق وضع جميع بيضها في السلة الأمريكية، بل تريد وتخطط على توزيع بيضها على سلال القوى العظمى؛ لأنها أولا لا تثق بالشريك الأمريكي، كما كان وضع هذه الشراكة قبل عقدين. وثانيا تعمل على تجهيز أوضاعها في الحقول الاقتصادية والعسكرية والتجارية والمالية والسياسية، في مواجهة التغييرات المرتقبة في المنطقة والعالم..